عظة البطريرك في جنازة المثلّث الرحمة المطران ريمون عيد كاتدرائية مار جرجس – بيروت

“ستحزنون، ولكنّ حزنكم سيتحوّل إلى فرح” (يو16: 20)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بيروت، الخميس 14 يونيو 2012 (ZENIT.org). – بالحزن والأسى الشديد نودّع أخاً لنا في الأسقفيّة وراعياً في الكنيسة، هو المثلّث الرحمة المطران ريمون عيد، الذي نرافقه بصلاة الرجاء هذه، فيما يغيب عنّا وعنكم، منطلقاً إلى بيت الآب، ليلقى ثواب الرعاة الصالحين، وقد نهج نهج المعلّم الراعي الصالح، يسوع المسيح، راعي الرعاة العظيم. وبذلك يتحوّل حزن الصليب الذي حمله في مختلف مراحل حياته إلى فرح يناله في مجد السماء. إنّنا نرجو مع أهله وأصدقائه وسائر محبّيه أن يتحوّل حزننا نحن أيضاً إلى فرح، كما وعد الربّ يسوع في خطابه الوداعي الذي ينقله لنا إنجيل اليوم: “ستحزنون، لكنّ حزنكم سيتحوّل إلى فرح”.

   2. وضع هذا الأخ والأسقف الراحل كلّ رجائه في المسيح وكلمة الإنجيل، وثبت على الإيمان وسط المضايق والمحن، وما أكثرها في حياته الكهنوتية والأسقفية، في مطلع حياته وفي أواخرها، بل وبين الإثنين. ولذلك تُوجّت ورقة نعيه بوصية بولس: “أثبتوا على الإيمان، راسخين في رجاء الإنجيل” (كول1: 23). ولقد تمكّن هو أولاً من الثبات في الإيمان، والرسوخ في رجاء الإنجيل، والفضل في ذلك يعود إلى تربيته المسيحية في بيت كهنوتي من الشوف، وإلى روحانيته الكهنوتية، وثقافته اللاهوتية الراسخة، وخبرته الطويلة في الحياة ونظرته العميقة إلى الأحداث.

   3. إنّه ابنُ مزرعة الضهر، مولود في 6 أب 1930عيد تجلّي الربّ، والداه داود ومريم عيد تقيان ومن عائلة عريقة بإيمانها وتقاليدها اللبنانية الأصيلة وبانفتاحها على الثقافة والعلم. وتربّى إلى جانب شقيقين وشقيقة سبقوه ثلاثتهم إلى دار الخلود، أحدهم أخوه المثلّث الرحمة المطران اميل الذي له الفضل الكبير في تطوير وكالتنا البطريركية في روما وعمرانها، وفي ترميم مبنى معهدنا الحبري في المدينة الخالدة وإعادة فتحه، وفي تدوين مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، وقد عيّنه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني نائباً لرئيس لجنتها الحبرية، ثمّ رئيساً لها. عمّه المونسنيور يوسف عيد الذي خدم لسنين طويلة رعيتنا المارونية في Fall River بالولايات المتّحدة الأميركية. نال علومه التأسيسية في مدرسة اخوة المدارس المسيحية في صيدا، ثمّ في إكليريكية غزير، وصولاً إلى المعهد الإكليريكي الشرقي بجامعة القديس يوسف في بيروت للآباء اليسوعيين حيث أنهى دروسه الفلسفية واللاهوتية مجازاً في اللاهوت مع ديبلوم في العلوم الإجتماعية والفقه الإسلامي. وسيم كاهناً في 30 ايار 1957. وعلى الفور أُسندت إليه خدمة رعية مار مارون جزين، من بعد شقيقه الخوري اميل، المطران فيما بعد، الذي عيّنه المثلّث الرحمة البطريرك الكردينال مار بولس بطرس المعوشي وكيلاً معتمداً بطريركياً في روما. لكن الخوري ريمون، المنفتح على الثقافة والعلم، واصل دروسه العليا، إلى جانب خدمته الراعوية، فنال شهادة الماجيستير في الفلسفة من الجامعة اللبنانية سنة 1971، والدكتورا في القانون الكنسي والمدني من جامعة مار يوحنا اللاتران بروما سنة 1976.

   4. شكّلت خدمته الكهنوتية في رعية مار مارون جزين، التي دامت اثنتين وأربعين سنة، مرحلة من حياته غنيّة بالإنجازات، حتى أضحت جزين حاضرة دائماً في أحاديثه. هناك أرسى أسس الخدمة الراعوية على مستوى العمل والهيكليات والأخويات والمنظمات الرسولية والشبيبة، وأكمل مزار سيدة المعبور العزيزة على قلب الجزينيين، وساهم في تأسيس رابطة كاريتاس في صيدا مع المرحوم الأخ معماري، وترأّس إقليمها في المنطقة عندما أصبحت رابطة كاريتاس لبنان، في عهد المثلّث الرحمة البطريرك الكردينال مار انطونيوس بطرس خريش. وبفضل ثباته على الإيمان، ورسوخه في رجاء الإنجيل، تحمّل الصعوبات والمحن السياسية والإجتماعيّة والأمنيّة. وفي حصار مدينة جزين والإحتلال الإسرائيلي ظلّ صامداً أمام شعبه، مصلياً ومشجعاً وجامعاً ومؤمّناً المساعدات الغذائية والطبّية والسكنية، وسالكاً بحكمة وفطنة، مادّاً الجسور مع العائلات الروحية: الموحِّدين الدروز في الشوف، والسنّة في صيدا والإقليم، والشيعة في الجنوب. وكم توفّرت عنده من كتابات وتأملات وقراءات للأحداث الجارية في لبنان والعالم العربي، وللمشاريع السياسية للمنطقة، في ضوء ما قرأ من كتب ومقالات بهذا الشأن، وكانت مكتبته الخاصة غنيّة جدّاً بالكتب السياسية والإجتماعية الحديثة. وظلّت كلّ معلوماته وقراءاته محفوظة في قلبه وذاكرته، متجنّباً نشرها لفطنته وحكمته وحذره. وتميّز بطاعته وإخلاصه لمطارنة صيدا المتعاقبين، وصولاً إلى سيادة المطران طانيوس الخوري السامي الاحترام.

   5. وانتخبه سينودس كنيستنا المقدّس، برئاسة صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس، مطراناً لأبرشية دمشق في دورة حزيران 1999، خلفاً للمطران انطون حميد موراني الذي قدّم استقالته من إدارتها بداعي الصحة والإنصراف إلى الكتابة والتأليف، والذي غادرنا إلى بيت الآب في أواخر شهر نيسان الماضي. وراح المطران ريمون يتفانى في خدمة هذه الأبرشية التي كانت تفتقر إلى كهنة وكنائس وهيكليات ومال. فجمع الدعوات الإكليريكية، ووضع المشاريع لبناء كنائس وتأسيس رعايا ومدارس، واستكمل بناء بيت الطالبات بقرب المطرانية، ورمّم بيت الراهبات بعد تعرّضه للحريق، وابتاع عقاراً ذا مساحة مرموقة في محلة جدنايا بدمشق حيث يوجد تجمّع الأديار والكنائس لكلّ الطوائف المسيحية.

   وأَولى جذور الكنيسة المارونية في دمشق وسوريا اهتماماً علميّاً خاصّاً. فنقّب عنها بأبحاث وقراءات مطوّلة، وجمع المستندات والوثائق المختصّة بأبرشية دمشق العريقة التي كانت تشمل منطقة كسروان، قبل أن تُفصل عنها وتؤسّس أبرشية صربا سنة 1960، وظلّت لفترة طويلة من دون أسقف مقيم فيها، ما أفقدها الكثير من الممتلكات والتنظيم والحضور والدور. فراح يدافع عن كرامتها وكرامة الكنيسة المارونية في المحيط الدمشقي. وعزّز تكريم الطوباويين الشهداء الإخوة المسابكيين المحفوظة رفاتهم في الكاتدرائية المارونية بدمشق، ووضع تساعية وتراتيل خاصّة بهم. وسعى، أثناء التوتّر السياسي والأمني بين سوريا ولبنان، إلى لعب دور فطنٍ وحثيث مبني على ما يجمع ولا يباعد، إذ كان يقرأ الأحداث الجارية في إطار مشاريع دوليّة وإقليميّة، وبرؤية مستقبليّة واضحة عنده، ما أكسبه احترام الجميع لفطنته وعمق تفكيره وسعة اطّلاعه. هذا، إلى جانب حضوره في مطرانية دمشق، المميّز بحسن الإستقبال والإصغاء والكرم والعطف على الفقراء. ومن بعد أن قدّم استقالته بداعي العمر من إدارة الأبرشية سنة 2006، سلّم مقاليدها في 26 تشرين الثاني من السنة نفسها، بكثير من المحبة والإحترام لخلفه سيادة المطران سمير نصّار، واضعاً نفسه في تصرّفه لأيّ خدمة أو مشورة، فكانت بين السلف والخلف علاقات محبة وتقدير وتعاون، ولم يمرّ خلفه مرّة في لبنان إلا وزاره متفقّداً ومستشيراً.

   6. ولمّا عاد إلى لبنان، وعاش مع شقيقه المطران اميل، في منزلهما في فرن الشباك، لقيا لدى رئيس أساقفة بيروت سيادة المطران بولس مطر أصدق روابط الأخوّة؛ وأُحيطا بكثير من العناية والخدمة، وخصوصاً عندما ثقل على الواحد بعد الآخر وقر الشيخوخة والأمراض حتى الوفاة، من قبل عائلة شقيقهما المرحوم سامي. كما أحاطه بكثير من الإهتمام والقرب الأخوي سيادة المطران الياس نصار، رئيس أساقفة صيدا. وبهدوء وصمت، فيما سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس ملتئم في رياضته الروحية وأعماله المجمعيّة، وقد زاره وفد منه في ساعاته الأخيرة، أسلم الروح فجر الثلثاء 11 حزيران الجاري، مودعاً إيّاها رحمة الله وحنان أمّنا مريم العذراء سيدة المعبور وشفاعة أبينا القديس مارون، آملاً أن ينال ثواب الرعاة الصالحين. وكأنّه يقول لنا جميعاً في الزمن الصعب الراهن، بلسان بولس الرسول: “أثبتوا على الإيمان، راسخين في رجاء الإنجيل”.

   وإنّا باسم صاحب الغبطة والنيافة وإخواني السادة المطارنة وباسمكم جميعاً، نقدّم التعازي الحارّة لأبرشيتَي دمشق وصيدا، اساقفة وإكليروساً وشعباً، ولأنسباء الراحل الكبير وآل عيد الكرام وسائر عائلات مزرعة الضهر. رحمه الله ومتّعه بالمشاهدة السعيدة، وعوّض على الكنيسة برعاة صالحين، وسكب على القلوب بلسم العزاء. آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير