حاضرة الفاتيكان، الإثنين 29 أكتوبر 2012 (ZENIT.org)- ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي ترأسه في بازيليك القديس بطرس يوم الأحد 28 أكتوبر 2012 بمناسبة اختتام أعمال الجمعية العامة الثالثة عشرة لسينودس الأساقفة.

***

أيها الآباء الأجلاء،

سيداتي سادتي،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

يحتل شفاء برطيماوس الأعمى مركزًا مهمًّا في بنية إنجيل مرقس. في الواقع، يتواجد النص في نهاية قسم عنوانه "المسيرة الى أورشليم"، أي الحج الأخير ليسوع الى المدينة المقدسة لعيد الفصح وهو عالم بأن الآلام، والموت، والقيامة بانتظاره هناك. مر يسوع بأريحا في طريقه للصعود الى أورشليم من وادي الأردن، وبينما هو خارج من أريحا التقى ببرطيماوس وكما يشير مرقس البشير "وبينما هو خارج من أريحا ومعه تلاميذه وجمع غفير" (10، 46)، هذا الجمع الذي سيهتف بأن يسوع هو المسيح عند دخوله الى أورشليم. كان برطيماوس واسمه يعني "ابن طيما"، جالسًا الى جانب الطريق يستجدي. إن إنجيل مرقس هو مسيرة إيمان، تنمو تدريجيًّا في مدرسة يسوع. التلاميذ هم الممثلون الأوائل في مسيرة الإكتشاف هذه، ولكن هناك أيضًا شخصيات أخرى تشغل دورًا مهمًّا، وبرطيماوس هو واحد منها. إن شفاؤه هو الأعجوبة الأخيرة التي قام بها يسوع قبل آلامه، وليس من قبيل الصدفة أن الشفاء تم لأعمى، أي لشخص فقدت عيناه النور. نحن نعلم أيضًا أن حالة العمى تحمل معان غنية في الأناجيل، فهي تجسد الإنسان الذي يحتاج لنور الله، لنور الإيمان، ليعرف الحقيقة ويسير على طريق الحياة. من الضروري أن نعترف بأننا عميان، أن نعترف بأننا بحاجة لهذا النور، الذي من دونه نبقى عميانًا الى الأبد (راجع يوحنا 9، 39-41).

عند هذه النقطة الاستراتيجية من نص مرقس، يعتبر برطيماوس كنموذج. هو لم يولد أعمى بل فقد بصره: هو الرجل الذي فقد النور، وهو مدرك لذلك، ولكنه لم يفقد الرجاء هو يعرف كيف يرحب بفرصة اللقاء مع يسوع، وسلم نفسه إليه ليشفى. في الواقع، عندما سمع بأن المعلم يمر بالطريق صرخ: "يسوع، ابن داود ارحمني!" (مرقس 10، 47)، ويكرر ذلك مرة ثانية بقوة (الآية 48). وعندما يدعوه يسوع ويسأله ما الذي يريده أن يصنعه له يجيب "رابوني، أن أبصر!" (الآية 51). يمثل برطيماوس الرجل الذي يدرك ألمه ويصرخ للرب، واثق بشفائه. إن دعاءه، البسيط والصادق، هو مثال، ويشبه دعاء العشار في الهيكل: "اللهم ارحمني أنا الخاطىء!" (لوقا 18، 13) الذي دخل في تقليد الصلاة المسيحية. يجد برطيماوس من جديد في لقائه مع المسيح النور الذي فقده ومعه ملء كرامته: يقف ويستأنف مسيرته، هو الذي حظى بمرشد في هذه اللحظة، وهو يسوع، ووجد طريقًا، الطريق الذي يسير يسوع عليه. لا يقول لنا مرقس البشير بعدها أي شيء عن برطيماوس، ولكن يظهر لنا من خلاله من هو التلميذ: هو الذي، مع ضوء الإيمان، يتبع يسوع "في الطريق" (الآية 52).

يتأمل القديس أغسطينوس في إحدى كتاباته تأملا خاصًّا حول شخصية برطيماوس، وهو تأمل ممكن أن يكون مهمًّا ويحمل لنا مغزى اليوم. يسلط القديس الضوء على ان مرقس لم يذكر اسم الشخص الذي شفي فحسب، بل يذكر اسم والده، ويخلص الى أن "برطيماوس، ابن طيماوس، كان يعيش ازدهارًا كبيرًا، والبؤس الذي سقط فيه كان له عليه تأثيرًا كبيرًا، ليس لأنه أصبح أعمى، بل لأنه كان جالسًا يستجدي. هذا هو السبب الذي دفع بالقديس مرقس لذكر اسمه. إن الأعجوبة التي أعادت له نظره كان لها صدى أكبر من سوء حظه الذي كان معروفًا أينما كان" (L’accord entre les Évangiles, 2, 65, 125 : PL 34, 1138). هذا ما قاله القديس أغسطينوس.

إن هذا التفسير بأن برطيماوس هو شخص انتشل من "حالة ازدهار كبيرة" يدفعنا الى التفكير؛ يدعونا للتفكير بأنه هناك موارد قيمة لحياتنا يمكننا أن نفقدها، والتي ليست مادية. من هذا المنظور، يمكن لبرطيماوس أن يمثل كل أولئك الذين يعيشون في مناطق تبشيرية قديمة، حيث ضعف نور الإيمان، وابتعدوا عن الله، وما عادوا يعتبرونه مهما للحياة: وبالتالي أشخاص فقدوا ثروة، "أي انتشلوا" من كرامة عالية- لا إقتصادية، أو سلطة دنيوية، بل الثروة المسيحية- لقد فقدوا التوجيه الأكيد والصلب للحياة، وأصبحوا، غالبًا من دون وعي، مستجدين لمعنى الوجود. كثير من الناس بحاجة لتبشير جديد، أي للقاء جديد مع يسوع، المسيح، ابن الله (راجع مرقس 1،1)، هو الذي يستطيع أن يفتح من جديد عيونهم ويرشدهم على الطريق. تقدم لنا الليتورجية إنجيل برطيماوس، تزامنًا مع اختتامنا للجمعية العامة لسينودس الأساقفة حول التبشير الجديد، وهذا له دلالة خاصة. كلمة الله هذه تريد أن توصل لنا شيئًا بطريقة خاصة، فلقد تحاورنا في هذه الأيام حول ضرورة إعلان المسيح بطريقة جديدة، حيث ضعف نور الإيمان، حيث نار الله هي مثل نار الجمر تحتاج لتحيا من جديد، لتكون شعلة حية تعطي نورًا ودفئًا لكل البيت.

التبشير الجديد يعني حياة الكنيسة بأكملها. هو يشير، أولا، الى العمل الرعوي الذي يجب أن تفعّله دائما نار الروح، ليشعل قلوب المؤمنين الذين يحضرون بانتظام الى الجماعة، ويجتمعون في يوم الرب ليتغذوا من كلمته، ومن خبز الحياة الأبدية. أود هنا أن أشير الى ثلاث نقاط رعوية انبثقت عن السينودس. الأولى تتعلق بأسرار التنشئة المسيحية. تم إعادة التأكيد على واجب أن يرافق التحضير للمعمودية، والتثبيت، والإفخارستيا تعليم مسيحي ملائم. كما تم التذكير بأهمية التوبة، سر رحمة الله. من خلال مسيرة الأسرار هذه، تمر دعوة الرب الى القداسة، التي يوجهها لكل المسيحيين. ف ي الواقع، لقد تكرر مرات عدة بأن الرواد الحقيقيين للتبشير الجديد هم القديسون: من خلال مثال حياتهم، وأعمال المحبة التي قاموا بها يتحدثون بلغة يفهمها الجميع.

من ناحية أخرى، التبشير الجديد مرتبط بالرسالة الى الأمم. فواجب الكنيسة أن تبشر، وتعلن رسالة الخلاص الى البشر الذين لا يعرفون بعد يسوع المسيح. لقد تمت الإشارة خلال التأملات السينودسية الى أن هناك أماكن عدة في أفريقيا، وآسيا، وأوقيانيا حيث ينتظر الناس بشغف، وأحيانًا من دون أن يكونوا على وعي تام، الإعلان الأول للإنجيل. لذلك يجب أن نصلي للروح القدس لكيما يحرك في الكنيسة دينامية تبشيرية متجددة يكون روادها، بشكل خاص، العمال الرعويون والمؤمنون العلمانيون. لقد تسببت العولمة بنزوح كبير للسكان؛ لذلك هناك حاجة للإعلان في بلدان التبشير القديم. لدى كل البشر الحق في معرفة يسوع المسيح وإنجيله، وهذا من واجب المسيحيين، جميعهم كالكهنة، والرهبان، والعلمانيين أن يعلنوا البشرى السارة.

هناك أيضًا جانب ثالث يتعلق بالأشخاص المعمدين ومع ذلك لا يعيشون متطلبات المعمودية. تم تسليط الضوء خلال أعمال السينودس على أن هؤلاء الأشخاص يتواجدون في جميع القارات، لا سيما في البلدان الأكثر علمانية. تولي لهم الكنيسة انتباهًا خاصًّا، لكيما يلتقوا من جديد بيسوع المسيح، ويكتشفوا فرح الإيمان مجددا ويعودوا الى الممارسة الدينية في جماعة المؤمنين. وراء الأساليب الرعوية التقليدية القيمة، تبحث الكنيسة لاستخدام أساليب جديدة، بالإضافة الى لغات جديدة متلائمة مع الثقافات المختلفة في العالم، لتقديم حقيقة المسيح من خلال الحوار والصداقة المبنيين على الله الذي هو محبة. بدأت الكنيسة بالفعل مسيرة الإبداع الرعوي هذه في أجزاء مختلفة من العالم للتقرب من الأشخاص البعيدين أو الذين يبحثون عن معنى للحياة، والسعادة، وبالتأكيد عن الله. فلنذكر ببعض الإرساليات المحلية المهمة في القرى والمدن، "رواق الأمم"، الإرسالية القارية...ليس هناك أدنى شك بأن الرب، الراعي الصالح، سيبارك بوفرة كل الجهود التي تأتي نتيجة الحماس لشخصه وإنجيله.

إخوتي وأخواتي الأعزاء، بعد أن أعاد يسوع البصر الى برطيماوس، انضم هذا الأخير الى مجموعة التلاميذ، التي كانت تضم بالتأكيد آخرين، مثله شفاهم المعلم. هكذا هم المبشرون الجدد: أشخاص اختبروا نعمة الشفاء من الرب بواسطة يسوع المسيح. سمتهم هي فرح القلب، كما جاء في المزمور  (125، 3) "عظم الرب الصنيع معنا فصرنا فرحين." نحن أيضًا الآن، ننظر الى الرب يسوع، مخلص الإنسان، نور الأمم، مع امتنان فرح، مصلين صلاة القديس أكليمنضوس الإسكندري: "لقد كنت أهيم حتى الآن على أمل أن أجد الله، ولكن لأنك تنيرني، يا رب، أجد الله من خلالك، وأحصل على الآب منك، أصبح شريكك في الميراث، لأنك لم تخجل بي كأخ. فلنمحو إذا، فلنمحو نسيان الحقيقة، والجهل: ومع إزالتنا للظلمات التي هي كغشاء يمنعنا من الرؤية، فلنتأمل الله الحقيقي... لأن نورًا من السماء سطع علينا نحن الذين كنا غارقين في الظلمات، وأسرى لظل الموت (نور) أنقى من نور الشمس، أرقّ من الحياة هنا على الأرض"  (Protreptique, 113, 2-114, 1).

أمين.

***

نقلته الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية