تجذب الأمور الغامضة، الفضائح، الإشاعات وما يعرف بالإنجليزية بالـ "غوسيب" الإنسانَ بشكل مدهش. ففي الإعلام الديني، مثلاً، ما إن يصدر خبر عن كتاب "سري" أو "خفي" وحالما يُعلن عن موضوع يتم التسويق له كـ "سَبَق" (scoop) نرى تهافت القراء والفُضُوليّين.
يطيب لنا أن نرى في هذا الميل (أقله في وجهه الإيجابي، لا المرضي) سمة تحث الإنسان على الانفتاح على ما لا يعرفه، على المجهول، وفي المقام الأخير، سِمة تفتحه في صفائها على الله، الآخر والمجهول بامتياز. يشاركنا نيتشه هذا التحليل بجدلية معاكسة إذ يقول: "إن أمرًا تمّ شرحه يكف عن اجتذاب اهتمامنا. ولذا فإن الله سيهمنا دومًا".
على هذا المنوال، نجد كيف أن الكثير من الناس، بما في ذلك المؤمنين، غالبًا ما يقابلون الكتاب المقدس وكلمات الرب في العهد الجديد باللامبالاة، بينما ينكبون حالما يعلمون باكتشاف مخطوط ما عن يسوع المسيح. والاهتمام يزداد بقدر ما تزداد الغرابة.
في هذا القسم من المقالة، سننظر إلى الكتب المنحولة المرتبطة بالعهدين القديم والجديد. بادئ ذي بدء نود أن نبدد خطأً شائعًا يقول أن الكتابات المنحولة هي تلك الكتابات التي أرادت الكنيسة إخفاءها عن الناس. سنبين في معرض بحثنا أن هذا الأمر هو خطأ تاريخي. ولكن فلنبدأ بالتبحر بالمعنى الأتيمولوجي وبالمعاني المختلفة لكلمة "أبوكريفوس".
معنى كلمة "أبوكريفوس"
إن كلمة "منحول" باللغة العربية هي ترجمة للكلمة اليونانية "apócruphos". الكلمة اليونانية تعني أتيمولوجيًا "ما هو خفي، سري"، وكانت الحركات، الفرق والبدع – التي كانت تتسم غالبًا بطابع "إيزوتيري" - تستعمل هذه التسمية للتمييز بين الكتابات العامة والشائعة، وبين كتابات خاصة سرية تزعم أنها تتضمن عقائد وحقائق لا يجب أن تعرفها العامة، بل هي مخصصة للمنورين. ولذا فإن كلمة "أبوكريفا" ليست في المقام الأول تسمية كنسية، بل داخلية في الحركات الإيزتيرية الغنوصية وغيرها.
أخذ المسيحيون في ما بعد هذا الاستعمال للكلام عن الكتب التي وجدوا فيها أفكارًا لا تتطابق مع إيمان الجماعة إما لتضمنها هرطقات واضحة أو لأجل نسبها غير البيّن والزائف.
يتحدث إيريناوس في مؤلفه الشهير "ضد الهرطقات"، على سبيل المثال، عن الكتب الأبوكريفية فيعتبر الكلمة كمرادف لخاطئ أو مزيف، وبكلمة، كمرادف لمنحول. وقد كتب أب الكنيسة الشهير مطولاً معرفًا بتعاليم الغنوصيين وكتاباتهم المنحولة وداحضًا لها. ويشكل القديس إيريناوس أسقف ليون حتى يومنا هذا المرجع الرئيسي بشأن الفكر الغنوصي والمنحول في القرنين الأول والثاني.
كما ويخبرنا أوريجانوس أنه أسوة بمن كان ينسب لنفسه في العهد القديم النبوءة دون أن يكون متحليًا بها فعلاً، كذلك في العهد الجديد حاول الكثيرون أن يكتبوا أناجيلهم ولنا في ذلك شهادة في مطلع إنجيل لوقا، حيث يقول الإنجيلي: "لما أن أخذ كثير من الناس يدونون رواية الأمور التي تمت عندنا، كما نقلها إلينا الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثم صاروا عاملين لها، رأيت أنا أيضا، وقد تقصيتها جميعا من أصولها، أن أكتبها لك مرتبة يا تاوفيلس المكرم، لتتيقن صحة ما تلقيت من تعليم" (لو 1، 1 – 4). ويخبر أوريجانوس أيضًا أنه عرف عدة أناجيل منحولة ورفضها.
هناك أيضًا معنى آخر لكلمة "أبوكريفا"، فهي تعني الكتب التي لم تكن موجودة في القانون العبري. وهذا التعبير ما زال يستعمل في أيامنا هذه. فهناك كتب في العهد القديم مثل سفر يشوع بن سيراخ، سفر يهوديت، سفر طوبيا، سفري المكابيين، الحكمة لا تعتبر قانونية في القانون العبري ولكن التقليد المسيحي قد قبلها، وبينما يسميها الكاثوليك "الكتب القانونية الثانية"، يسميها البروتستانت "الكتب الأبوكريفية" لأنها لا تصلح بالنسبة لهم لتأسيس العقائد بل فقط للفائدة الفردية.
وعليه، التسمية الأولى للكتب المنحولة-الأبوكريفية تبين لنا أننا لسنا بصدد كتب "خفية" و "سرية" بل بصدد كتب كانت متفشية في القرون الأولى وكان على آباء الكنيسة وعلى المؤمنين أن يتواجهوا مع مكنوناتها لكي يبينوا ضلالها.
فقط في مرحلة لاحقة، وبعد دحض مكنوناتها باتت هذه الكتابات نادرة الوجود. إلا أنها لم تكن – كما يزمع بعض المتفلسفين – مجهولة بالكامل، فمنذ القدم نعرف بوجودها وبأغلاطها. يكفينا قراءة كتابات آباء الكنيسة الذين كانوا يعرضون بشكل مدروس أفكار هذه الكتابات ويبينون بطلانها حتى نعرف بوجود عشرات لا بل مئات الكتابات المنحولة.
هذا وإن الاكتشافات الأثرية الحديثة مكنتنا من وضع اليد مباشرة على نصوص كنا نعرف بوجودها بطريقة غير مباشرة. وعليه فالسؤال التالي الذي نطرحه هو: ما هو مكنون الكتابات المنحولة وبشكل خاص الأناجيل المنحولة؟
(يتبع)