الدنح هو ظهور طيبة الله ومحبته لشعبه

عظة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد الدنح

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد الدنح يوم الأحد 6 يناير 2012 في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

تعتبر الكنيسة المؤمنة والمصلية، بأن المجوس الذين أتوا من الشرق وقد أرشدتهم النجمة الى مغارة بيت لحم، ليسوا سوى بداية لمسيرة كبيرة تتقدم في التاريخ. بسبب ذلك، تقرأ الليتورجية الإنجيل الذي يتناول المجوس مع الرؤى الجميلة لأشعيا 60 وللمزمور 72 التي تجسد بمخيلة جريئة حج الشعوب نحو أورشليم. كما يجسد الرعاة، أول ضيوف للطفل المولود المضجع في مذود، فقراء اسرائيل، بشكل خاص، النفوس المتواضعة التي تحيا بقرب داخلي من يسوع، كذلك يجسد الرجال القادمين من الشرق الشعوب الأخرى، كنيسة الأمم- الرجال الذين يسيرون منذ عصور نحو طفل بيت لحم، ويكرمونه كابن الله، ويسجدون أمامه. تسمي الكنيسة هذا العيد “عيد الدنح”- الظهور الإلهي. إذا نظرنا الى حقيقة أنه، منذ البدء، لا تزال الشعوب من جميع القارات، ومن جميع الثقافات، وطرق التفكير والحياة المختلفة، تسير نحو المسيح، لأمكننا فعلا أن نقول بأن هذا الحج وهذا اللقاء مع الله بصورة الطفل هو ظهور طيبة الله ومحبته لشعبه. (تيطس 3، 4).

وفقا لتقليد بدأه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، نحتفل أيضًا بعيد الدنح كيوم سيامة كهنوتية لأربعة كهنة، يساهمون منذ الآن من خلال مهام مختلفة في مساعدة البابا في عمله من أجل وحدة كنيسة يسوع المسيح في تعدد الكنائس الخاصة. إن الصلة بين هذه السيامة الكهنوتية وموضوع حج الشعوب نحو يسوع المسيح واضحة جدا. في هذا الحج لا يقتصر عمل الكاهن على السير مع الآخرين بل عليه أيضًا أن يتقدمهم ويرشدهم الى الطريق. أود أن أتأمل أيضًا معكم في هذا القداس، بموضوع عملي أكثر. انطلاقا من قصة رواها متى، يمكننا بالتأكيد أن نشكل فكرة حول شخصيات أولئك الرجال الذين بعد أن تبعوا علامة النجمة، انطلقوا ليبحثوا عن الملك الذي جاء لينشئ مملكة من نوع آخر، ليس لاسرائيل فحسب، بل أيضًا للبشرية جمعاء. أي نوع من الرجال إذا هم هؤلاء؟ وانطلاقا منهم، فلنسأل أنفسنا إذا، وعلى الرغم من الفارق الزمني والعملي، يمكننا أن ندرك مهمة الكاهن والطريقة التي عليه أن يؤديها بها.

إن الرجال الذين انطلقوا نحو المجهول كانوا على أي حال، أصحاب قلوب حائرة. رجال قادهم البحث الحائر عن الله وعن خلاص العالم. رجال ينتظرون شيئا غير مكتفين بدخلهم المؤمّن ولا بمكانتهم الاجتماعية المعروفة. كانوا في بحث عن الحقيقة الكبرى. ربما كانوا رجالا مثقفين أصحاب معرفة بالنجوم أو حتى فلاسفة. ولكنهم لم يودوا أن يعرفوا الكثير فحسب، بل أرادوا أن يعرفوا الشيء الجوهري، أي كيف يمكننا أن نصبح أناسًا. لهذا السبب، أرادوا أن يعرفوا ما إذا كان الله موجودا، أين هو وكيف. إن كان يعتني بنا وكيف يمكننا أن نلتقي به. لم يودوا أن يعرفوا فحسب، بل أرادوا أن يكتشفوا الحقيقة بشأننا، وبشأن الله والعالم. كان حجهم الخارجي عبارة عن مسيرتهم الداخلية، عن الحج الداخلي لقلبهم. كانوا رجالا يبحثون عن الله وفي نهاية المطاف، كانوا في مسيرة نحوه. كانوا باحثين عن الله.

ولكن مع ذلك نصل الى السؤال التالي: كيف يجب أن يكون الرجل الذي نسمه كاهنا في كنيسة يسوع المسيح؟ يمكننا القول: عليه أن يكون قبل كل شيء رجل يولي اهتمامه لله، لأنه بذلك يهتم للناس أيضًا. يمكننا أن نقول ذلك بالعكس أيضًا: على الأسقف أن يحمل الناس في قلبه، وأن تشغله همومهم. عليه أن يكون رجلا للآخرين. يمكنه فقط أن يكون كذلك إن كان الله مهيمن على حياته، وإن أصبح اهتمامه بالإنسان الذي خلقه الله كاهتمامه بالله. لا يجب على الأسقف أن يكون شخصًا يؤدي عمله فحسب، بل على مثال المجوس يجب أن يشغله اهتمام الله بالبشر. عليه، إن جاز التعبير، أن يفكر ويشعر مع الله. هو ليس إنسانا يحمل بداخله الاهتمام الفطري بالله، بل على هذا الاهتمام أن يكون متشاركا مع اهتمام الله بنا. لأن الله يهتم لأمرنا، لقد تبعنا من المذود الى الصليب. “لقد اتخذت عناء البحث عني، خلصتني بآلامك: لا يجب على جهد كهذا أن يذهب سدى”، هكذا تصلي الكنيسة في Dies irae “يوم الغضب”. اهتمام الله بالإنسان وانطلاقا منه اهتمام الإنسان بالله لا يجب أن يمنح الراحة للأسقف. هذا ما نفهمه حين نقول بأن على الأسقف أن يكون رجل إيمان لأن الإيمان ليس سوى لمس الله لداخلنا، شرط أن يقودنا على مسيرة الحياة. يقودنا الإيمان الى حالة يخطفنا فيها اهتمام الله، ويجعل منا حجاجا في مسيرة داخلية نحو الملك الحقيقي للعالم ونحو وعده بالعدالة، والحقيقة، والمحبة. في هذا الحج، على الاسقف أن يكون السباق ويظهر للناس الطريق نحو الإيمان، والرجاء، والمحبة.

تتم مسيرة الإيمان الداخلي نحو الله خصوصًا بالصلاة. قال القديس أغسطينس يوما أن الصلاة، في التحليل النهائي، ليست سوى تجذر لرغبتنا بالله. يمكننا أن نستبدل كلمة “رغبة” بكلمة “الاهتمام” ونقول بأن الصلاة تود أن تقتلعنا من راحتنا الفانية ومن انغلاقنا بالحقائق المادية، والملموسة، وتنقل لنا اهتمام الله، وبذلك تجعلنا نهتم أحدنا بالآخر. بصفته حاجا لله على الأسقف أولا أن يكون رجلا يصلي. عليه أن يعيش في تواصل داخلي مستمر مع الله، وعلى روحه أن تكون منفتحة كليا على الله. عليه أن يحمل لله مصاعبه ومصاعب الآخرين، كما أيضًا أفراحه وأفراحهم، فيخلق هكذا بطريقته الخاصة التواصل بين الله والعالم في الشراكة مع المسيح ليشع نور المسيح على العالم.

فلنعد الآن لنتكلم عن مجوس الشرق. كانوا رجالا شجعانا، يتحلون بشجاعة الإيمان وتواضعه. كان لا بد من التحلي بالشجاعة لاتباع علامات النجم كأمر بالذهاب أو الخروج نحو المجهول، وغير المؤكد، على طرقات تعتريها أخطار متعددة. يمكننا أن نتخيل بأن قرار هؤلاء الرجال أثار السخرية: سخرية الواقعيين من أحلام أولئك الرجال. إن الذي يسير الى المجهول مستندا الى وعود غير مؤكدة وهو يخاطر بكل شيء لا يمكنه إلا أن يصبح محط سخرية. ولكن بالنسبة اليهم هم الذين لمس الله داخلهم، كان الطريق الذي تبعوه بحسب الإرشادات الإلهية أهم من آراء الناس. كان البحث عن الحقيقة بالنسبة اليهم أهم من سخرية العالم، الذي يدعي الذكاء.

فكيف يمكننا أمام موقف كهذا ألا  نفكر بمهمة الأسقف في عصرنا؟ إن تواضع الإيمان، والإيمان المشترك مع إيمان الكنيسة في كل العصور، يجدان أنفسهما مرارا وتكرارا في صراع مع الذكاء المهيمن من أولئك الذين يتمسكون بما يبدو أكيدًا. إن الذي يحيا ويعلن إيمان الكنيسة، على مستويات عدة لا يتلائم مع الآراء المهيمنة كما هو الحال في عصرنا. تهيمن اللاأدرية اليوم بشكل واسع على العقائد السائدة وهي لا تتساهل أبدا مع ما يهددها أو يهدد معاييرها. لذلك، فإن الشجاعة لمعارضة التوجهات السائدة حاجة ملحة اليوم لكل أسقف. فيجب عليه أن يكون شجاعا، وهذه الشجاعة لا تعني الضرب بعنف، أو العدوانية، بل التعرض للضرب والوقوف في وجه المعايير السائدة. إن الشجاعة للتمسك بالحقيقة بشدة أمر مطلوب من الذين يرسلهم الرب كالحملان بين الذئاب. “من اتقى الرب فلا يخاف ولا يفزع” (يشوع ابن سيراخ 34، 16). إن اتقاء الله يحررنا من الخوف من البشر. يجعلنا أحرارا!

في هذا السياق، أتذكر كتابة حول بداية المسيحية يذكرها القديس لوقا في أعمال الرسل. بعد خطاب جملئيل، الذي كان يثبط العنف تجاه جماعة المؤمنين بيسوع، استدعى السنهدرين الرسل وجلدهم. وبعدها منعهم من التكلم باسم يسوع وأطلق صراحهم. ويتابع لوقا: “وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِه وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي الْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (أعمال 5، 40). يجب على خلفاء الرسل أن يتوقعوا أن يضربوا مرارا وتكرارا إن لم يتوقفوا عن إعلان انجيل يسوع المسيح. وهكذا يستطيعون أن يفرحوا إن تم الاعتداء عليهم من اجل اسمه. بطبيعة الحال، نحن نود على مثال الرسل أن نقنع الناس ونحصل على موافقتهم. نحن لا نستفز أحدا لكننا على العكس ندعو كل شخص ليدخل الى فرح الحقيقة الذي يظهر الطريق. مع ذلك فالموافقة على الآراء السائدة ليست المعيار الذي نخضع له. فالمعيار الوحيد هو الرب. إذا دافعنا عن قضيته، نكسب بفضل الله دائما من جديد أشخاصا لمسيرة الإنجيل. ولكن حتما سيعذبنا أولئك الذين يعارضون الإنجيل في حياتهم، وحينها سنكون ممتنين للمشاركة بآلام المسيح.

تبع المجوس النجم، وهكذا تمكنوا من الوصول الى يسوع، الى النور العظيم الذي ينير كل انسان آت الى هذا العالم (راجع يوحنا 1، 9). أصبح المجوس بنفسهم وكحجاج إيمان نجوما تلمع في سماء التاريخ وتدلنا على الطريق. القديسون هم نجوم الله التي تنير ليالي هذا العالم وتقودنا. قال القديس بولس الى مؤمنيه في الرسالة الى أهل فيليبي بأن عليهم أن يضيئوا كنيرات في العالم (أفسس 2، 15).

أصدقائي الأعزاء، هذا يعنينا نحن أيضًا. هذا بخاصة يعنيكم أنتم الذين ستتم سيامتكم اليوم ككهنة في كنيسة يسوع المسيح. إن حييتم مع المسيح، مرتبطين به في الأسرار، فتصبحون بذلك أنتم أيضًا حكماء. تصبحون إذًا نيرات تسبق البشر وتدلهم على طريق الحياة الصحيح. في هذا الوقت نحن جميعا هنا نصلي لكم، ليملأكم الرب من نور الإيمان والمحبة. فليلمس اهتمام الله هذا بالإنسان قلوبكم، ليختبر الجميع قربه ويحصلون على عطية فرحه. نحن نصلي لكم، لكي يعطيكم الرب دائما الشجاعة، والتواضع، والإيمان. نحن نصلي لمريم التي أظهرت للمجوس ملك العالم الجديد (متى 2، 11)، لكيما كأم محبة تظهر لكم أنتم أيضًا يسوع المسيح وتساعدكم لتكونوا شعبًا يشير الى الطريق التي تؤدي إليه. أمين.

***

نقلته الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير