"من تراه الوكيل الأمين الحكيم" (لو12: 42)

عظة الأحد للكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

Share this Entry

1. في الروزنامة الليتورجية، اليومُ أحدُ تذكارِ الكهنة. فتصلّي الكنيسةُ من أجلِ راحة نفوس الكهنة المتوفَّين؛ ومن أجل الكهنةِ الأحياءِ لكي يؤدّوا رسالتَهم الكهنوتيّة “كوكلاءِ أسرارِ الله”، كما يدعوهم بولس الرسول(1كور4: 1)، مُتحلِّين بالأمانةِ والحكمة؛ وتصلّي من أجلِ نموِّ الدعواتِ الكهنوتية. ويقعُ هذا الأحدُ في أسبوعِ الصلاةِ من أجلِ وحدةِ الكنائس الذي يمتدُّ من الثامن عشر، تذكارِ قيامِ كرسيِّ بطرسَ الرسول في روما، الى الخامس والعشرين من هذا الشهر، تذكارِ اهتداءِ القديسِ بولس. فنحن نرفعُ صلاتَنا مع الكنيسةِ جمعاء من أجل وحدةِ المؤمنين بالمسيح، وهي صلاةٌ رفعها الربُّ يسوعُ قُبَيل آلامه وموته: “يا أبتِ، ليكونوا واحداً كما نحن واحد”(يو 17: 11). إنّنا ندعو الرعايا والجماعاتِ الديريّة لأن تُقيمَ الصلاة من أجلِ وحدةِ الكنائس طيلةَ هذا الأسبوع، مُعتمدين الكُتَيِّبَ الذي وزّعتْه اللجنةُ الأسقفيّة للعلاقات المسكونيّة، التابعة لمجلسِ البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموضوع: “ماذا يطلبُ منّا الربّ”(مي 6: 8).

2. يسعدني أن أرحّبَ بكم جميعاً، ونحن نجتمع حول مذبح الربّ للاستنارةِ بكلمةِ الحياة، والاغتذاء من جسدِ الربِّ ودمِه، وتوطيدِ أواصرِ الشركة والمحبة. إنّنا نقدِّمُ هذه الذبيحة المقدَّسة من أجل راحة نفوسِ الكهنةِ المتوفَّين الذين خدموا في رعايانا وكنائسِنا وأديارِنا إنجيلَ يسوع المسيح، وزرعوا نِعمَ أسرارِه الخلاصيّة، وبَنوا الجماعاتِ المسيحيّةَ حولَ سِرِّ القربانِ، وشهِدوا لمحبّةِ المسيح، وغادروا هذه الدّنيا إلى بيتِ الآب، فنصلّي من أجلهم: “الراحةَ الدائمة أعطهم يا رب، ونورُك الأزلي فليضئ لهم. وليستريحوا بسلام، برحمة الله والسلام آمين”.

3. ونذكر بصلاتِنا الاحبار الكهنةَ الأحياء الذين ينطبقُ عليهم كلامُ الربِّ في الإنجيل: “من تُراه الوكيلُ الأمينُ الحكيم، الذي أقامه سيّدُه على خدمةِ بني بيتِه، ليُعطيَهم الطعامَ في حينه”(لو12: 42). أجل إنّهم “وكلاءُ أسرارِ الله“(1كور 4: 1). أقامهم المسيحُ الربّ، ألكاهنُ الأزليُّ، شركاءَه في الكهنوت،معلِّمينَ ومُقدِّسينَ ورعاة. إنّهم معلّمو كلمةِ الإنجيل التي تُولِّدُ الإيمانَ وتُثقِّفُه، ومُوزِّعو نعمةِ الأسرار التي تُقدِّسُ النفوسَ، ورعاةٌ صالحون يشهدون لمحبّةِ المسيحِ أمامَ جميعِ الناس، بأعمالِهم ومسلكِهم والمبادرات. فيكونَ “الطعامُ”، المؤتمنون عليه من المسيحِ الربّ، كلمةَ الحياة ونعمةَ التقديس والمحبةَ النابعةَ من الروحِ القدسِ المسكوبِ في القلوب.

لكنَّ الكهنةَ مَدعوُّون ليستنيروا هم أوّلاً بكلمةِ الإنجيلِ وتعليمِ الكنيسة ويشهدوا لها في مَثَلِ حياتِهم وعلمِهم وحرارةِ إيمانِهم وغَيرتِهم الرسولية وعنايتهم الراعوية. ومدعوّون ليتقدّسوا هم أوّلاً بنعمةِ الأسرارِ التي تُجدِّدُهم وتُنقّيهِم وتُغنِيهم بالفضائلِ والقِيَمِ الرّوحيةِ والأخلاقيةِ والإنسانية.ومَدعوُّون ليمتلئوا هم أوّلاً من محبةِ المسيحِ التي تُسكب في قلوبِهم بالروح القدس، فتفيضَ من قلوبِهم مشاعرَ الحنانِ والرحمةِ واحترامِ الآخر والتفاني في الخدمة، وتخرجَ من أفواهِهم الكلمةَ الحلوة البنّاءة واللطيفة.

4. ونصلّي من أجلِ ثباتِ الدّعواتِ الكهنوتية، في الأبرشيّات والرهبانيّات. ونلتمسُ من المسيحِ الربّ أن يُنعمَ علينا بدعواتٍ جديدة، من أجلِ تلبيةِ حاجاتِ كنيستِنا في لبنانَ والشّرقِ الاوسط وبلدانِ الانتشار، الى كهنةٍ ورهبانٍ وراهباتٍ لخدمةِ الأبرشيات والإرساليات. إننا نذكرُ بصلاتنا أيضاً الآباءَ القيّمين على تنشئةِ الإكليريكيّينَ في المدارسِ الإكليريكية وأديارِ التنشئة وكُلّياتِ اللاهوت، لكي تعضدَهم نعمةُ الرِّوحِ القدس في تمييزِ الدّعواتِ ومواكبتِها وتوفيرِ تنشئتِها الإنسانيةِ والروحيةِ والعلميةِ والراعوية، ولكي يكافئَهم اللهُ على تعبِهم وجهدِهم بفيضٍ من نعمِه وبركاتِه.

5. “مَن تُراهُ الوكيلُ الأمينُ الحكيم”. هذا الكلامُ الإنجيليُ ينطبقُ أيضاً على كلِّ مسؤولٍ في العائلةِ والمدرسة والجامعة والمجتمعِ والدولة.فالمسؤوليةُ وكالةٌ من الله، سواءَ بتأسيسٍ إلهيّ كالزواجِ والعائلة، أم بحكمِ النظامِ الطبيعي الذي وضعَه اللهُ الخالقُ كالسلطةِ المدنيّةِ الإداريّةِ والسياسيّة، من أجل أن يعيشَ الناسُ بسلام، ويتفاهموا ويُنظّموا شؤونَ مدينةِ الأرض، وينعموا بالخيرِ والعدلِ، “فيقضي صاحبُ السلطةِ بالعدلِ للشعب، وبالإنصافِ للضّعفاء” كما نصلّي في المزمور 72 (آية 2).

6. الأزواجُ مُوَكَّلون على تبادلِ “طعامِ” الحبِّ والتفاهُمِ والخدمة والاحترام، بحيثُ يُسعدُ الواحدُ الآخرَ. فالزواجُ عهدٌ مقدّسٌ أسّسَه اللهُ الخالقُ ونظَّمَه بشرائع، وأرادَه لإسعادِ الزّوجَين بتأمينِ خيرِهم، ولإنجابِ الأولادِ وتربيتِهم. ويُبرِمُ الزوجان هذا العهدَ بصيغةِ عقدٍ على أساسٍ من العقلِ الواعي والإرادةِ الحُرّة والنيةِ السليمة. ويحتفلان به كمسيحيَّين سرّاً مقدّساً، أنشأَه المسيحُ الربّ، لكي يجعلَ الزوجَين على صورةِ اتّحادِه بالكنيسة، ويتقدّسا بنعمةِ السرِّ الإلهية، ويتشدّدا في الرباطِ الزوجيّ وسط الصعوباتِ
والمِحن. هكذا تنشأُ بينَهما شركةُ حياةٍ وحبٍّ مدى العمر، تتميّزُ بخاصّتَين جوهريّتَين الوحدةِ والديمومة، تحفظهما الأمانةُ للعهدِ والعقدِ والسرّ(مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق 776).

7. والوالدون مُوَكَّلون على توفيرِ “طعام” التربية لأولادهم، بتأمين خيرِهم الجسدي والأخلاقي والروحي، بحيث ينمونَ، على مثال يسوعَ – الإنسانِ الذي كان “مُطيعاً لأبوَيه وينمو بالقامةِ والحكمةِ والنّعمة أمامَ اللهِ والناس”(لو2: 51-52). نحنُ نعرفُ صعوبةَ هذه التربيةِ بوجوهِها الثلاثة: المادّيّةِ والعلميّةِ والروحية. لكنّ الكنيسةَ تُصلّي من أجلِ الوالدين، وتتفهّمُ صعوباتِهم المادّيّةِ والمعنويةِ والإيمانية، وتساعدُهم مؤسّساتُها التربويّةِ والاجتماعيّةِ على تخطّي هذه الصعوبات، وتُعزّز راعويةَ الزواجِ والعائلة. إنّنا ندعو إلى عدمِ الاستقالةِ من واجبِ تربيةِ أولادِهم الأخلاقيّةِ والروحيّة، مهما كانت صعبة، ومهما وجدوا من رفضٍ وعدمِ اكتراثٍ وممانعة من أولادِهم ولا سيّما في سنِّ المُراهقة. ندعوكم، أيّها الوالدون، للتّعاونِ مع الأساقفة والكهنة والمرشدين الروحيّين من رهبانٍ وراهبات، ومع إداراتِ المدارسِ والمعلّمين والمُربّين، في السّهرِ على أولادِكم: على نوعيّةِ حياتِهم وممارستِهم الدينية، وعلى طريقةِ استعمالِ تقنيّاتِ الإعلامِ الحديثة، وعلى خروجِهم من البيت وسهراتِهم ورِفْقَتِهم. إنَّ أخطارًا كثيرة تتهدَّدُ أولادَكم ومنها البرامجَ الإعلامية الهدّامة، والفلتان الأخلاقي في المجتمع، والمخدِّرات، والعلبَ الليليّة، والأمثلة الرديئة والمعاشرة السيّئة، والمسؤولون المربون في المدارس والجامعات مدعوون لان يقدموا طعام مثل حياتهم أولًا مع العلم والتربية على الاخلاق الانسانية والاجتماعية والوطنية.

8. والمسؤولون السياسيّون مُوَكَّلون من الشعبِ ومن النظامِ الطبيعي الذي وضعه الخالق، ليُوفِّروا للشعب “طعامَ” الخيرِ العام من خلالِ النشاط التشريعي والإجرائي والإداري والقضائي، وإحياءِ اقتصادٍ وافرٍ يُؤمّنُ العيشَ الكريمَ للجميع، وتأمينِ ثقافةٍ وتعليمٍ يُمكّنانِ الأجيالَ الطالعةَ من تربيةِ نفوسهم وإعدادِ مستقبلِهم وتحقيقِ ذواتهم.

أجل المسؤولون السياسيّون موكَّلون على الخير العام الذي يقتضي منهم تنظيمَ الحياةِ العامّةِ في مقتضياتِها اليوميّةِ ومتفرّعاتِها. نعني إدارةَ شؤونِ الدولة في نشاطِها الداخلي بمؤسّساتِها ودوائرِها وأجهزتِها والمخطّطاتِ والمشاريعِ الإنمائيّة والعمرانيّة، وفي نشاطِها الخارجي بما تقيمُ من علاقاتِ صداقةٍ وتعاون، وبما تُبرم معها من معاهداتٍ واتّفاقاتٍ اقتصاديةٍ وتجاريةٍ وثقافية. ونعني أيضاً تعزيزَ محبّةِ الوطنِ وكرامتَه وتراثَه ورموزَه ودورَه وتاريخَه وثقافتَه، وتحقيقَ آمالِ أبناءِ الوطنِ وتطلّعاتِ شبابِه، وإزالةَ هواجسِ المواطنين وتجنيبَهم ما يتهدّدُهم من أخطار(شرعة العمل السياسي، في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصيّة لبنان، ص 6و9).

9. ويتطلّعُ الشّعبُ اللّبنانيُّ اليومَ إلى المسؤولينَ السياسيّينَ في شأن أمرَين جوهريَين: القانون الجديد للانتخابات النيابيّة، واستقبالِ النازحين من سوريا إلى لبنان. والأمران يتعلّقان بحمايةِ الثقافة اللّبنانية والكيانِ اللّبناني وفقاً للميثاق الوطني والدستور.

فالقانونُ الجديدُ للانتخابات لا يهدُفُ إلى تأمين مزيدٍ من المقاعدِ لهذا أو ذاك من الأفرقاء، ولا لإذكاءِ روحِ الطائفيّةِ والمذهبية، بل يهدُفُ إلى إحياءِ الديموقراطيّةِ الحقيقيّة التي تُمَيِّزُ لبنان، والتي تقومُ على المساواةِ بين المسيحيّين والمسلمين في الحقوقِ والواجبات، وعلى المناصفةِ في الحكم والإدارة، وعلى حقّ المواطنين باختيارِ ممثّليهم تحت القبّة البرلمانيةِ بصوتِهم الحُرِّ والفاعل، وبإمكانيةِ محاسبتِهم ومساءلتِهم، من دونِ أن يُفرضوا عليهم رغمًا عنهم من مجموعاتٍ ونافذين. والكلّ يهدفُ إلى حمايةِ جناحَي لبنان المسيحيّ والمسلم وتفعيلِهما، وبالتّالي إلى تعزيزِ الثقافة اللبنانية المكوَّنة من العيش المشترك، ومن القيمةِ المُضافة التي يقدّمُها كلٌّ من المسيحيةِ والإسلام على تنوّعِ المذاهب، أعني ثقافةَ الحوار والتوافقِ والانفتاحِ والحيادِ الإيجابي الملتزم قضايا السلام والعدالة وحقوق الإنسان. هذا هو المقصودُ من القانونِ الجديد للإنتخابات، كمطلبٍ وطنيٍّ ندعو المسؤولين إلى تلبيته.

واستقبالُ الإخوةِ النازحين من سوريا واجبٌ إنسانيٌ علينا، وهو من شِيَم اللبنانيين وثقافتِهم المضيافة وروحِ التضامن السخي. ولقد دعونا مع رابطة كاريتاس-لبنان إلى يومٍ تضامُني مع النّازحين في الأحد المقبل، ونثني على كلِّ المبادراتِ القائمة لإغاثتِهم. ولكن ينبغي على الدولةِ اللبنانية أن تضبُطَ الداخلين بحيثُ لا يتسرّبُ معهم سلاحٌ ومؤامرات، ولا يُصار إلى استغلالهم الطائفي أو المذهبي أو السياسي من أجل إذكاءِ الصراعِ في الداخل ومنه إلى الخارج، ومن أجل حمايةِ الثقافةِ اللبنانية وحضارتِنا القائمة على تعزيزِ السلام ونبذِ العنف والحرب والإرهاب والحركاتِ الأصولية والراديكالية. ويجب أن تعملَ الدولةُ اللبنانية مع الأسرةِ الدّولية على عدمِ تحميلِ لبنان فوقَ طاقتِه من الأخوة النازحين، بل على توزيعِهم على سائرِ البلدان ال
عربية بروحِ التعاون والتضامن، وعلى المناطقِ الآمنة في سوريا. ويجب بنوع خاصّ على منظّمة الأمم المتّحدةأن تبذلَ كلَّ جهدِها بالسرعةِ القصوى لإيقافِ دوّامةِ الحرب والعنف بين المتقاتلين في سوريا وموجاتِ التهجير والنزوح، ولصدِّ الدّول المعنيّة عن التمادي في مدِّ النظام والمعارضة بالمال والسلاح والعناصر. فلا يجوز الاهتمام بمنح المساعدات للنازحين وإهمال المطالبة الملحّة والعمل الجدّي لإيقاف الحرب والدمار وتهجير المواطنين.

10. إنّ كلام الربّ في إنجيل اليوم يدعو كلَّ مسؤول – موكَّل إلى الأمانة والحكمة في ممارسة مسؤوليّته. الأمانة للواجب وللموكِّل وللجماعة. والحكمة في إداء الواجب بحيث يتمّ بمخافة الله واستحضارِه وبالوعي وحُسنِ تقييم الأمور والتمييزِ بين العدل والظلم، وبين الخير والشرّ، وبين الفائدة الشخصيّة أو الفئوية والخير العام. وكلام الربِّ صريحٌ عن الثواب والعقاب من لدن الله. فالذي يمارس وكالته بالأمانة والحكمة ينال الخلاص الأبدي إذ يشركه الله بسعادته الخالدة(لو 12: 43-44). أمّا الذي يهمل وكالته ويسيء استعمال مسؤوليته وسلطته يعاقبه الله بالهلاك الابدي مع الكافرين(لو12: 45-46).

وتبقى لنا جميعاً ولكلّ مسؤول في العائلة والكنيسة، في المدرسة والجامعة وفي المجتمع والدولة، كلمة الربّ يسوع: “من أُعطي كثيراً يُطلب منه الكثير، ومن اؤتُمن على الكثير يُطالب بالأكثر”(لو12: 48).

نسأل الله أن يزيّينا بالأمانة والحكمة، لكي يقوم كلٌّ منّا بمسؤوليّته، ويرفع بأعماله نشيد التسبيح للآب والابن والروح القدس إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير