1. السَّير على خطى يسوع المسيح لنيل ملكوت السماء ومجده يقتضي قبول كأس الألم في كلّ وجوهه الجسديّة والروحيّة والمعنويّة، كما قبلها يسوع فحقّق فداء الجنس البشري من خطاياه وخلاص العالم، وكان هو الفادي والمخلّص. من بين الذين شربوا كأس الألم، وشاركوا المسيح المخلّص في آلام الفداء، القدّيس المعروف ببادري بيّو، حامل جراحات المسيح في يدَيه ورجلَيه وجنبه الأيسر، الذي ندشّن اليوم على اسمه هذه الكنيسة في مدرسة سيدة اللويزه. إنّنا نلتمس من المسيح الفادي الإلهي، بشفاعة القديس بيّو، نعمة قبول كأس الألم كيفما أتى.
2. يسعدنا أن نشارك في هذا التدشين، بدعوة من العزيز الأب شربل حداد، مرشد أصدقاء القديس بيّو، ورئيس مدرسة سيدة اللويزه. إنّني أحيّيه ومعاونيه الآباء وإدارة المدرسة وأساتذتها وطلّابها وأهلهم. وأحيّي بنوع خاصّ قدس الرئيس العام الأباتي بطرس طربيه والآباء المدبِّرين وسائر آباء وأبناء أمِّنا الرهبانيّة المارونيّة المريميّة الأحبّاء. وأودّ أن أُثني على جعل كنيسة المدرسة على اسم القديس بيّو. وقد استحقّت تخصيصها لتكريم هذا القديس بعد عشر سنوات من لقاء “أصدقاء بادري بيّو” فيها والاحتفال بالقداس التكريمي لهذا القديس كلّ ثالث وعشرين من الشهر، إحياءً لعيده المحدَّد في 23 أيلول.
بعد هذا التخصيص والتدشين يواصل “أصدقاء بادري بيّو” بفرح ورجاء قدّاسهم الشهري فيها والتعمّق في روحانيّته واتّخاذ المقاصد للاقتداء بفضائله، وطلّاب المدرسة يحتفلون يوميّاً بقداسهم وفقاً لصفوفهم، والأساتذة يقيمون فيها رياضاتهم الروحيّة، فضلاً عمّا سيجري فيها من احتفالات ليتورجيّة متنوّعة. وممّا لا شكّ فيه أنّ نِعَمَ الله ستفيض، باستحقاقات القديس بيّو وشفاعته، على المشاركين في الصلوات والقداسات والمحسنين، وعلى هذه المدرسة وأسرتها التربوية، وعلى الرهبانيّة والكنيسة. وإنّنا على نيّتهم جميعاً نقيم هذه الذبيحة المقدسة.
3. لا بدّ من التّذكير بأنّ بادري بيّو، واسمه الأصلي فرانشيسكو فورجيوني، وُلد في بلدة Pietralcina بإيطاليا في 25 أيار 1887، وبعمر إحدى عشرة سنة قرّر دخول رهبنة الآباء الكبّوشيّين، والتحق فيها بعمر ست عشر سنة. ارتسم كاهناً في 10 آب 1910 بعمر 23 سنة. وبعد ثماني سنين، ظهرت في يدَيه ورجلَيه وجنبه الأيسر علامات جراحات المسيح، مع آلام مبرّحة، حملها مدّة خمسين سنة حتى وفاته في 22 ايلول 1968، وعندما أسلم الروح اختفت علامات آلام المسيح، للدلالة أنّه دخل مجد السماء. ما يعني أنّ الله حاضر في حياة كلّ واحد منّا في كلّ لحظة من لحظات حياته، شرط أن نكون نحن معه.
بحكم هذه الاختبار، لمّا فاتحه واحد بقوله: “أنا لا أؤمن بالله”، أجاب بادري بيو: “ولكن يا بني، الله يؤمن بك”. ولواحد فَقَدَ الرجاء بإصلاح حياته وجاء يقول في الاعتراف لبادري بيو “يا أبتِ، أنا ارتكبتُ خطايا كثيرة، ولم يبقَ لي اي أمل بالرجوع إلى الله”، أجاب بادري بيو: “لكن الله لا يترك أحداً، فقد كلّفه أمر خلاصك الكثير، فكيف يتركك؟” هذا الكلام يذكّرُنا بقولٍ للقديس اغسطينوس وهو يخاطب الله قائلاً: “أنت كُنتَ في داخل نفسي، وأنا كنتُ في خارجها. فأنت الذي دفعتَني من داخلي إلى التوبة والعودة إليك، ولولاك لما رجعت إليك”.
4. يوم رسامته الكهنوتية، كتب بادري بيو على الصورة التّذكارية هذه الجملة: “يسوع، يا نفسي وحياتي. وأنا ارتجف، أرفعك في سرّ الحبّ. معك أرغب في أن أكون للعالم طريقاً ومثال حياة، ولأجلك كاهناً قديساً، ذبيحة كاملة”. كان بادري بيّو صادقاً مع نفسه، وكلماته هذه خرجت من قلبه، والتزم بها. ولذلك، بعد ثماني سنين ظهرت علامات آلام المسيح في يدَيه ورجلَيه وجنبِه الأيسر. وبدأت معها مراحل آلامه على مدى خمسين سنة. تألّم جسديّاً، من جراحه التي كانت في نزيف دم دائم؛ وتألّم روحيّاً بسبب الخطايا التي يسمعها في كرسي الاعتراف حيث كان يمضي ستَّ عشرة ساعة في اليوم؛ وكان يظهر ألمه أثناء احتفاله بذبيحة القداس؛ وتألّم معنويّاً عندما كان الناس لا يفهمون حالة جراحه مع بعض الهزء والاستخفاف، ويؤوِّلون مكوثه الساعات الطوال في كرسي الاعتراف، وعندما كان يقرأ ما في قلب التائبين من نوايا وما على ضمائرهم من خطايا، حتى تدخّل الكرسي الرسولي، بعد عشر سنوات، ومنعه عن ممارسة سرّ الاعتراف، وعن الاحتفال بالقدّاس الإلهي أمام الناس لمدّة سنتَين. فقبل بادري بيّو هذا التدبير بطاعة وصبر.
5. القديس بادري بيّو معلّم لنا في شرب كأس الألم، من أجل تواصل آلام المسيح لفداء العالم. لقد رغب بالألم مشاركةً منه بسرّ الفداء. وكان يقول: “أنا لا اشتهي الألم من أجل الألم، بل من أجل الثمار التي يعطيها. فالألم يمجّد الله ويُسهم في خلاص إخوتي. فماذا يمكنني أن أتمنّى أكثر؟”.
لم يكتب بادري بيّو كلمات الألم على ورق، بل كتبها في جسده وقلبه ونفسه. فبعد خمس وعشرين سنة من حياته الكهنوتية، قضى منها سبع عشرة سنة حاملاً جراحات المسيح، كتب على صورة يوبيله الكهنوتي الفضّي: “يا يسوع ذبيحتي وحبّي، اجعلني مذبحاً لصليبك، وكأساً لدمك، وذبيحة لحبّك”. ولمن يسأله عن حالته، كان يقول: “الآلام تعطيني سعادتي. إنّني أتألّم كثيراً، ولا أطلب تخفيف صليبي، لأنني سعيد بأن أتالّم مع يسوع. عندما أرى الصليب على كتفَي يسوع، أشعر بالقو
ّة، وأبتهج فرحاً، وبخاصّة، لما أتألّم من دون تعزية. لقد قال لي يسوع: إنّه بالحبّ يصيّرني سعيداً، وأنا بعذابي أفرّحه”.
وإذا تساءلنا كيف “يفرح الربّ يسوع بعذابه”، جاءنا الجواب من بولس الرسول الذي كتب إلى أهل كولوسي: “إنّي أفرح بالآلام التي أعانيها من أجلكم، وأُتمُّ في جسدي ما نقص من آلام المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة” (كول1: 24).
6. مجتمع اليوم، أكان في الحياة العلمانيّة أو الكهنوتيّة أو الرهبانيّة، يغري الكثيرين بما يضع بين أيديهم من مال وإمكانات، بروح المتعة والاستهلاكية وعبادة الذات والتأفّف من التضحية والتفاني، والسعي إلى الراحة الشخصيّة، وكأنّ بعضهم في تسابق إليها والتشبّه فيها. ففقدوا معنى المعموديّة التي طبعتنا بحالة الموت والقيامة، ومعنى الكهنوت القائم على الجمع بين الكاهن والذبيحة، على مثال المسيح الذي أشركنا بكهنوته، ومعنى التكرّس بالنذور الرهبانيّة الذي هو موت عن الذات، أعني عن الحرية الذاتيّة بالطاعة لإرادة الله والرؤساء، وعن ميول الجسد بالعفّة والحبّ للجميع، وعن تملّك حطام الدنيا بالفقر وروح التجرّد والاغتناء بالله. بسبب فقدان كلّ هذه المعاني، كانت الأزمة المسيحية والكهنوتية والرهبانية التي نشهدها.
لقد نسي الكثيرون قيمة الألم والصليب في حياتهم اليوميّة، وأنّه لا مجال لعيش الحياة المسيحية والحياة الكهنوتية والحياة الرهبانية، ومقتضياتها، وجني ثمارها الوافرة، من دون صليب الألم الذي أعطاه المسيح قيمة خلاص وفداء.
كتب الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة، “الألم الخلاصي”: “لقد تألّم يسوع الفادي مكان الإنسان ومن أجل الإنسان، فأصبح لكلّ إنسان نصيبه في الفداء. عندما أتمّ المسيح الفداء بآلامه، رفع في الوقت عينه الألم البشري إلى درجة الفداء، فبات بإمكان كلّ إنسان أن يشترك، من خلال ألمه الشّخصي، في آلام المسيح الفادية” (فقرة 19). وأضاف: “كلّ واحد منّا مدعوّ ليكتب صفحته الخاصّة في إنجيل الألم الخلاصي”.
7. “نعم ستشربان كأسي” (متى20: 23). هكذا قال يسوع ليعقوب ويوحنا ابنَي زبدى. وقال لبادري بيّو، ويردّدها لكلّ واحد منّا يقول “نعم” لكأس الألم كيفما قدّمت له، في الجسد أم في النفس أم في الروح. أكانت من الداخل أم من الخارج. فلا أحد منّا يختار صليبه، بل كلّ واحد مدعوّ ليحمل الصليب الذي يوضع على كتفه. ولا ينسينّ أحدٌ أنّ آلامنا أصبحت، بفضل آلام المسيح، “آلام مخاض” تولد منها حياة جديدة وحالة جديدة في الكنيسة والمجتمع. ولولا آلام المخاض، لما كنّا وُلدنا الولادة الأولى من بطون أمّهاتنا، والولادة الثانية من معمودية آلام المسيح وموته وقيامته، معمودية الماء والروح.
فيا أيّها القديس بيّو، فليسطع مثلُك امام أعينِنا، لنلج عمق سرّ الألم الخلاصي، من أجل حياة أوفر وحالة أفضل في الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. إشفع لنا لدى الفادي الإلهي لكي نختبر اختبارك الذي أعربت عنه بقولك: “تحت الصليب، تلبس النفوس النور، وتضطرم حبّاً، وتتّخذ أجنحة تطير بها عالياً”. ولنهتف معك: “فليكن الصليبُ سرير راحتنا، ومدرسة الألم والحبّ”.
وفي هذا اليوم الممجّد، نرفع نشيد التسبيح والشكر للآب الذي أحبّنا، والابن الذي افتدانا، والروح القدس الذي أحيانا، الآن وإلى الأبد، آمين.