ننشر في ما يلي العظة التي تلاها قداسة البابا بندكتس السادس عشر في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار بمناسبة الاحتفال بصلاة الغروب بمناسبة عيد ارتداد القديس بولس الذي يتزامن مع ختام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين.
* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إنه دومًا لفرح ولنعمة خاصة أن نجتمع معًا، حول ضريح الرسول بولس، لكي نختم أسبوع الصلاة لأجل وحدة المسيحيين. أحيي بعطف الكرادلة الحاضرين، وفي المقام الأول الكاردينال هارفي، رئيس كهنة هذه البازيليك، ومعه الأباتي وجماعة الرهبان التي تستضيفنا. أحيي الكاردينال كوخ، رئيس المجلس الحبري لتعزيز وحدة المسيحيين، وجميع معاوني المجلس.
أوجه تحياتي الأخوية والقلبية لصاحب السيادة الميتروبوليت جناديوس، الذي يمثل البطريرك المسكوني، والمحترم القانوني ريتشاردسون، الممثل الشخصي في روما لرئيس أساقفة كانتربري، ولكافة ممثلي مختلف الكنائس والجماعات الكنسية، التي اجتمعت هاهنا الليلة. كما ويطيب لي بشكل خاص أن أحيي أعضاء اللجنة المشتركة لأجل الحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، الذين أتمنى لهم عملاً مثمرًا في الدورة العامة التي تُعقد في هذه الأيام في روما، كما أحيي أيضًا تلاميذ معهد بوسي المسكوني، الذين يزورون روما للتعمق بمعرفة الكنيسة الكاثوليكية، والشباب الأرثوذكس الذين يدرسون هنا. أحيي أيضًا جميع الحاضرين الذي أتوا للصلاة من أجل وحدة جميع تلاميذ المسيح.
يندرج هذا الاحتفال في إطار سنة الإيمان التي بدأت في 11 أكتوبر المنصرم، والموافقة الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني. إن الشركة في الإيمان الواحد هو ركيزة المسكونية. فالوحدة هي هبة من الله لا تنفصل عن الإيمان؛ يعبّر عنها بشكل فعال القديس بولس: “جسد واحد وروح واحد، كما أنكم دعيتم دعوة رجاؤها واحد. ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة، وإله واحد أب لجميع الخلق وفوقهم جميعا، يعمل بهم جميعا وهو فيهم جميعا” (أف 4، 4 – 6). إن الإجهار بإيمان المعمودية بالله الآب والخالق، الذي كشف عن نفسه في الابن يسوع المسيح، مفيضًا الروح المحيي والمقدِّس، يشكل وحدة المسيحيين في الأصل. من دون الإيمان – الذي هو أولاً هبة من الله، ولكنه أيضًا جواب الإنسان – يضحي كل العمل المسكوني مجرد نوع من “العَقد” الذي نلتزم به لأجل مصلحة مشتركة. يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بأن المسيحيين “بقدر ما يتحدون عن كثب بالآب، بالكلمة وبالروح القدس، بقدر ذلك وبتلك السهولة سيتمكنون من إنماء الأخوّة المتبادلة” (وثيقة “إعادة الوحدة”، 7). لا يجب تجاهل المسائل العقائدية التي ما زالت تقسم بيننا ولا الاستخفاف بها. بل يجب معالجتها بشجاعة، بروح أخوة واحترام متبادل. يسمح الحوارُ، عندما يعكس أولوية الإيمان، بالانفتاح على عمل الله بثقة راسخة بأننا بمفردنا لا نستطيع أن نبني الوحدة، وبأن الروح هو الذي يقودنا نحو الشركة الكاملة، ويجعلنا نحدس الغنى الروحي الحاضر في مختلف الكنائس والجماعات الكنسية.
يبدو وكأن الرسالة المسيحية تؤثر بشكل أقل في المجتمع الحالي، في حياة الأشخاص والجماعات؛ وهذا الأمر يشكل تحديًا لكل الكنائس والجماعات الكنسية. الوحدة بحد ذاتها هي وسيلة مميزة، هي إلى حد ما شرط مسبق لإعلان الإيمان بشكل موثوق للذين لا يعرفون بعد المخلّص، أو الذين، رغم أنهم سبق وسمعوا إعلان الإنجيل، قد نسوا تقريبًا هذه الهبة الثمينة.
إن شك الانقسام الذي كان يكدر العمل الإرسالي كان الزخم الذي أطلق الحركة المسكونية كما نعرفها اليوم. يجب أن نفهم الشركة الكاملة والمرئية بين المسيحيين كميزة أساسية لشهادة أوضح. وبينما نسير في سبيل الوحدة الكاملة، من الضروري أن نستمر في تعاون ملموس بين تلاميذ المسيح في سبيل قضية نقل الإيمان للعالم المعاصر. هناك اليوم حاجة ماسة للمصالحة، للحوار، للتفاهم المتبادل، لوجهة لا تقتصر على الأخلاقية بل تهدف باسم الأصالة المسيحية إلى تقديم حضور أكثر تأثيرًا في واقع زمننا.
إن الإيمان الحق بالله لا ينفصل عن القداسة الشخصية، كما ولا ينفصل عن البحث عن العدالة. في أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، الذي نختتمه اليوم، كان هذا موضوع الصلاة المطروح على تأملنا: “ما يريده الرب منا”، المستوحى من كلمات النبي ميخا (راجع 6، 6 – 8). لقد اقترحه تلاميذ الحركة المسيحية في الهند بالتعاون مع اتحاد كل جامعات الهند الكاثوليكية ومجلس الكنائس الوطني في الهند، الذين أعدوا أيضًا دليلاً للتأمل والصلاة. أود أن أعبّر للذين شاركوا عن خالص عرفاني، وبعطف كبير، أؤكد الذكر بالصلاة لجميع مسيحيي الهند، الذين يُدعَون أحيانًا لتقديم شهادة إيمانهم في أوضاع صعبة. “السير بالتواضع مع الله” يعني بشكل خاص السير بجذرية في الإيمان، كابراهيم، واثقين بالله، بل واضعين فيه كل رجائنا ومُنانا، ولكنه يعني أيضًا السير ما وراء الحدود، متخطين البغض، العنصرية والتمييز الاجتماعي والديني التي تولد القسمة وتدمر المجتمع برمته. كما يقول القديس بولس، يجب على المسيحيين أن يكونوا السباقين في تقديم المثال النير في بحثهم عن المصالحة والشركة في المسيح، وتجاوز كل أشكال الانقسام. في الرسالة إلى أهلا غلاطية، يصرح رسول الأمم: “إنكم جميعا، وقد اعتمدتم في المسيح، قد لبستم المسيح: فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد أو حر، وليس هناك ذكر وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع” (3،
27 – 28).
إن بحثنا عن الوحدة في الحقيقة والحب، في آخر المقام، لا ينبغي أن تحملنا على ننسى أن وحدة المسيحيين إنما هي عمل الروح القدس وأنها تذهب أبعد بكثير من جهودنا. وبالتالي، فالمسكونية الروحية، وخصوصًا الصلاة، هي قلب الالتزام المسكوني (راجع “إعادة الوحدة”، 8). ومع ذلك، فالعمل المسكوني لن يعطي ثمارًا تدوم ما لم ترافقه بوادر ملموسة من الارتداد الذي يحرك الضمائر ويعزز شفاء الذاكرة والعلاقات. وكما تصرح الوثيقة حول العمل المسكوني للمجمع الفاتيكاني الثاني: “لا يوجد عمل مسكوني حق من دون ارتداد داخلي” (عدد 7). إن الارتداد الأصيل، مثل ذلك الذي يحث عليه النبي ميخا والذي يشكل القديس بولس نموذجًا بارزًا عنه، يحملنا أقرب إلى الله، إلى محور حياتنا، بشكل يقربنا بشكل أكبر بعضنا من بعض. هذا هو العنصر الأساسي من التزامنا المسكوني. إن تجديد حياتنا الداخلية في القلب والفكر، الذي ينعكس في حياتنا اليومية، هو أساسي في كل حوار وكل مسيرة مصالحة، الأمر الذي يجعل من المسكونية التزام تفاهم متبادل، التزام احترام ومحبة، “حتى يؤمن العالم” (يو 17، 21).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلنتضرع بثقة إلى مريم العذراء، مثال التبشير الذي لا يضاهى، لكيما تعلن الكنيسة، التي هي “رمز وأداة الوحدة الحميمة مع الله ووحدة كل الجنس البشري” (دستور “نور الأمم”، 1) – المسيح المخلص بشجاعة في عصرنا أيضًا. آمين.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية