لقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة أسبوع الوئام العالمي بين الأديان في العشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 2010، وأشارت الجمعية العامة في قرارها إلى أن التفاهم المتبادَل والحوار بين الأديان يشكّلان بُعدَيْن هامَّيْن من الثقافة العالمية للسلام والوئام بين الأديان، مما يجعل الأسبوع العالمي وسيلة لتعزيز الوئام بين جميع الناس بغضّ النظر عن ديانتهم.
ويعترف القرار بأن الحاجة ملحّة لإقامة حوار بين مختلف الأديان من أجل تعزيز التفاهم المتبادل والانسجام والتعاون بين الناس، كما تشجّع الجمعية العامة جميع الدول إلى دعم هذا الأسبوع لنشر رسالة الانسجام والوئام من خلال كنائس ومساجد ومعابد العالم وغيرها من أماكن العبادة، على أساس طوعي ووفقاً للقناعات والتقاليد الدينية الخاصة بهم.
والشكر واجب لِمَن عمل جاهداً في إيجاد دليلٍ إلى الوئام والمحبة لجميع أبناء المسكونة في أسبوع لأجل أن تكون فيه الكلمة وئاماً والحقيقة حياةً والمبادرة إنسانيةً. إنها المبادرة التي أعلنها جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين ، ملك المملكة الاردنية الهاشمية ، في 23 أيلول 2010، وتبنّتها كما ايدتّها وثبّتتها المنظمة الدولية ،بعد تصويت عليها بالاجماع ، وأقرّتها وحددّت الاحتفال بها في الأسبوع الأول من شباط – فبراير – من كل عام بدءاً بعام 2011، وفي هذا اسبوع الوئام بين أتباع الديانات ، تقوم خلالها حكومات وشعوب العالم ودور العبادة المختلفة بالتعبير عن تعاليم دياناتها الخاصة . إن ذلك يؤكد المكانة المحتَرَمَة التي يحظى بها مَن سعى إلى هذه الحقيقة ومَن أراد أن يجعل من المؤسسة الإنسانية، سمةً للوئام ، ورايةً لمسيرة الحوار، وطريقاً لعيش الأديان ، ومصطلحاً لتفسير عظمة الحضارة، ومساهمةً صادقة ، في تعميق علاقات المحبة والوئام ، والأخوّة والترابط.
إن المسيحيين يقدسون حياة كل كائن بشري لأنها هبة من الله، فيقاسمون الآخرين زاد مسيرتهم الإنسانية من أجل حوار سليم في عيش الوئام والسلام والتعاون، وأقرب الناس إلى المسيحيين في بلاد العرب هم الإسلام كما هو الحال مع الديانات الأخرى. فالمسيحي يحّب المسلم في إنسانيته وفي إيمانه، ولا يمكن إطلاقاً أن يكرهه، لأن المسيحيةَ لا تعرف لغةَ الحقدِ ، والكراهيةِ ، والانتقام، وذلك انطلاقاً من قول يسوع المسيح ، عيسى الحي ،”أحبوا بعضكم بعضاً” (يو 34:13)، إضافة إلى أننا جميعاً نعتزّ بإبراهيم _ أبي الآباء _ كنموذجٍ للإيمان بالله ، والخضوع لإرادته، وشهادة يجب أن تتم في إطار احترامنا المتبادل من أجل بناء حضارة المحبة والوئام ، في العمل ، على إزالة الحواجز التي تُبعدنا عن إنسانيتنا، فليس هناك دين يبيح قتل الآخرين أو سرقة أموالهم أو طردهم من أماكن سكناهم أو ملاحقتهم من أجل النيل منهم أو مضايقتهم أو العمل على تهجيرهم.
من المؤكد إن الأعمال غير الإنسانية تكشف حقيقة الأديان، كما تُظهر زيف السلام والوئام الذي ننادي بهما ، فنتعرى من الحقيقة بل نشيّعها في طوابير من الآلاف والملايين، وبكلمات عبر مكبّرات الصوت لتُسمَع في المسكونة وبأقطارها الأربعة، فنكون بذلك _ وهو من صنع أيدينا _ أننا غير أمناء ( لو42:22) لِمَ أُودع إلينا ، والذي بين أيادينا ولِمَا اؤتُمنّا عليه ، في المواطنة الحقة ، وحرية الضمير ، والعبادة والتعبير بصرف النظر عن الدين والمذهب والطائفة والعشيرة. وأمنيتي في ذلك ألا أرى الأديان بأجمعها ضحية الافتراء والتشويه، وردة فعل غير مقبولة، فالزمن يدعونا أن نكون معاً في مسيرة الحياة لأن تعدد الديانات والقوميات والثقافات عاملُ غِنى وإنفتاح، إذ كل دين يشهد لشيء مختلف وتلك مشيئة الخالق، وكل واحد يعتز بدينه. فالقرآن الكريم يقول:”لي ديني ولكم دينكم”، وما ذلك إلا دعوة لتحقيقها. والإمام علي (عليه السلام) يؤكد ذلك إذ قال:”إذا ما أُعطي لي الكرسي لحكمتُ لليهود بالتوراة ، وللنصارى بالإنجيل ، وللإسلام بالقرآن الكريم”، وهذا ما يجب تفسيره أن الوئام بين الأديان لا يمكن أن يعني تمييع الأديان ، أو ذوبان الصغار في خانات الأعداد والأقوياء، وكلام الأمام ما هو إلا تأكيد على احترام معتقدات وأفكار الآخرين .
وهذا ما يؤكده قداسة البابا بندكتس السادس عشر بقوله:”علينا أن نعترف بالاختلافات بيننا ونحترمها، كما نحث بعضنا بعضاً على أعمال الخير في الدرب نحو الله ، مع احترام الفوارق والخصوصيات لكل دين والتي تميزه عن الأديان الأخرى، وما ذلك إلا مواقف ثابتة ، وعلى أساس طوعي وقناعات وتقاليد دينية خاصة بكل دين، لأن الدين ما هو إلا مصدرُ محبةٍ لا خلافٍ”.
الوئام … لقاء
ديرتنا العربية، وفي عراقنا العزيز، ومنذ قرون عديدة، نشاطر الحياة مع إخواننا المسلمين ومع الديانات الأخرى المختلفة، إنْ كان ذلك في السراء أو في الضراء، فاختلطت دماؤنا وضحّينا بأعزائنا جميعاً كما هو حال أموالنا ،وما ذلك إلا علاقة لقاء حول تاريخ مشترك ، وأعطينا كما أعطى الآخرون بما احتاجته الأرض، فلبّينا النداء وبكل محبة وواجب، بكل ثقة وأمان، بكل وفاء وعطاء في الذود عن الوطن، في الإخلاص في المسيرة، في المساهمة ببناء الحضارة وصرح الثقافة، ووقفنا مواقف مشرّفة تجاه ثقافة الصخب والتمييع والإكراه والتحقير، منطلقين من مبدأ إننا كلنا أخوة في عبادة الله الواحد الخالق، المحب، الرحمن الرحيم… وما أجمل هذا اللقاء في مسيرة الوئام التي سبقنا فيها أبو الآباء، نب
ي الأنبياء، إبراهيم الخليل، المؤمن الأول الموحِّد في مسيرة تاريخ الخلاص.
الوئام … رسالة
عالمُ اليوم ، عالم الضعف والاضطهاد ، وقتل الأبرياء وانتهاك المحرَّمات، عالمُ الاضطراب والتعصب وإقصاء الآخر ، بحق أو بغير حق ، والحقد على أبرياء عاشوا زمناً ،- ودعاءَ، مسالمين، محبّين -، من أجل تشريدهم وإبعادهم واستمرار إهانتهم بدل وضعهم في مكانتهم، والعمل على حقيقة مواقفهم والشهادة لهم ولها، وما ذلك إلا من مبادئ العدل والمساواة كأسلوب للحياة اليومية والذي يقودنا إلى المحبة والتسامح والسلام واحترام المختلف في التضامن معه، وما ذلك إلا وئام القلوب وسلام الأفئدة قَلَّ نظيرهما في مجتمعاتنا،ومع الأسف، وهذا الأمر بالغ الأهمية في رسم خارطة الوئام عبر طريق السلام في الالتزام بالعدالة وباب المحبة بين جميع الشعوب في الدول كما في الشعوب.
الوئام … حوار
الحوار رسالة سماوية، بدأه الخالق سبحانه وتعالى وهو يحاور قايين قاتلَ أخيه ، ومُنهياً قائيين حواره مع الخالق بجوابه لسؤال الرب العظيم ” أين هابيل أخوكَ” ،اجاب ، “أحارسُ أنا لأخي”؟( تك9:1).. هذه العبارة تصّور مدى حقيقةِ الحوار، والتفاهم المتبادل ، والانسجام الذي يدعو إلى إعلانِ الحقيقة وخالقِها، وإلى بيان الشر ومرتكبِه. من هنا أستطيع أن أقول أن الوئامَ حوارٌ من أجل الحقيقة ، كما بإمكانه أن يكون حقيقةً من أجل الحوار… وما الحقيقة إلا قاسم مشترك في حوار مستديم من أجل وئام يجمع الأديان ، ويعزز ترابط أتباع الديانات من أجل خير الإنسانية وثبات المؤمنين في رسالة سامية من أجل العبرة والمثال.
فاليوم تدعونا الرسالة الإنسانية أن نتشجع كلُنا، مسلمون ومسيحيون ، ومؤمنو ديانات، على حدٍّ سواء لتحويل مشاعر التضامن إلى وحدة حقيقية ، في حوار يقودنا إلى بذر بذار الثقافة ، والإيمان الحقيقي للأجيال القادمة، وهذا ما تدعونا إليه أرضُنا المشرقية، مهدُ الحضارات والأديان، والمصطَبَغة بدماء شهدائنا كما هي منبتُ الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتَنا وإيمانَنا وحضورنا كما هو الحال أيضاً بأنها منبتٌ للمساجد والجوامع والحسينيات والمعابد. فالأديان لم تُعطَ لنا كي تكون سبباً في زرع الفتن والكراهيات والأحقاد بل رسالةً سماويةً ، لا تحمل إلا علاماتِ السلام وآيات الوئام ، من أجل الحقيقة ، وحقيقة الحوار من أجل نعمة الوئام ، كما أن الأديان لم تُرسَل إلينا لنكتبها على صفحات الزمن وبطاقات الدعوات أو لإذاعتها على موجات الأثير، وإنْ كان ذلك لابدّ ، فذلك لا يحصل إلا بالحوار النزيه واحترام الآخر والانفتاح في قبول رأيه.
الوئام … ثمار
الأديان رسالة سماوية ، حُملت الينا كي نحياها في مسيرة الحب والقبول ،عبر شوارع الألم، لمقاسمة الآخر ألمه، وفي انطلاقة الروح لعيش سماء الله على البسيطة الزائلة، وفي زنكنات الحقد والكراهية لكشف خطيئة الهارب من وجه الله ( تك9:1)… فحينما يملك الإيمان في القلوب يملك روح الوئام ويرفرف على الذين يفتشون عنه في الاعتراف بالقيم الدينية المشتركة واحترام المعتقد الأمين، وما ذلك إلا مسيرة السماح في قيم الإيمان وعبر كلمة سواء، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين، لأن الدين ما هو إلا مصدرُ محبةٍ لا خلاف، مصدرُ حوارٍ لا دمار، مصدرُ خدمةٍ لا مصدرُ نقمةٍ، مصدرُ لقاءٍ لا مصدرُ إستبعادٍ ، مصدرُ فضيلةٍ لا مصدرُ رذيلةٍ.
ففي الوئام الحامل لسبيل الحوار، وتبادل الآراء بالحسنى، تزول الفوارق وتتلاشى الأحقاد. والحوار وحدُه يعبّر عن احترام الآخرين، ويحفظ المصالحَ المشتركة ، دون الحاجة للجوء إلى العنف، ويجعلنا نتخطى كافة التوتراتِ بروح تفاهمٍ ، ومثمرٍ، من أجل بناء وإقامة علاقاتٍ حقيقية وصادقة، كما يحث الجميع إلى سبيل الصفح والغفران والمصالحة، ودون هذه الصفات في ركيزة البناء لا يمكن بناءَ السلام الحقيقي ، وعيشَ الوئام الصادق، الذي تنشده شعوب الأرض قاطبة، والذي خصصت له الأمم المتحدة أسبوعاً كاملاً كي يحمل ثماراً جيدة ، وتدوم ثماره (يو16:15) ، لأنه من ثمارهم تعرفونهم ( متى20:7) .
الختام
ختاماً… يطيب لي أن أختم هذا المقال ، بما قاله قداسة البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني ، في زيارته إلى تركيا في 18 شباط 2007، قال:”أتساءل، ألم يحن الوقت وخاصة اليوم وقد دخل المسيحيون والمسلمون في مرحلة جديدة من التاريخ، لتعزيز الروابط الروحية التي تربطنا. كما نسعى سوية لحماية المبادئ الأخلاقية، مبادئ السلام والوئام والحرية”. نعم، إن دعوتنا في الحقيقة تكمن في إقامة حوار مشترك، حوارٍ ثمارُه وئامٌ ، وسلوكُه سلامٌ. فنحن وكلاء لرسالة السماء، وعلى الوكلاء أن يكونوا أمناء (متى45:24) لموهبة رب السماء ، ألا وهي،السلام والوئام إنهما موهبتان من العلياء، فيارب إجعل الوئام ،حواراً يسود على شعوب البسيطة ، نعم وأمين .