"سأجعلُ روحي عليه، فيبشِّر الأمم بالحقّ"

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – الديمان، الأحد 7 تموز 2013

Share this Entry

1. هذا “الفتى” أو “الخادم”، في نبوءة أشعيا، هو ابن الله، الذي صار إنساناً يسوع المسيح التاريخي؛ والذي أصبح بعد موته وقيامته المسيح السّري أي الكنيسة جسدهالمعروفة بالشعب المسيحي. هذا الشعب ومؤمنوه والمؤمنات أشركهم المسيح بهويته المكوّنة بمسحة الروح القدس، وبرسالته القائمة على تبشير الأمم بالحقّ، أي بإنجيل الله؛ وهو أيضاً كلّ أسقف وكاهن اختاره الله وجعله بمسحة الروح على صورة الكاهن الأزليّ يسوع المسيح، وسلّمه سلطاناً إلهيّاً للتَّعليم والتَّقديس والتَّدبير.

ولذلك تُقال نبوءة أشعيا عن كلّ مؤمن ومؤمنة بحكم المعمودية والميرون، وعن كلّ أسقف وكاهن بحكم الرسامة المقدّسة، وعن كلّ جماعة مسيحية: “هوذا فتاي الذي اخترتُه، حبيبي الذي رضيتُ عنه، سأجعلُ روحي عليه ليبشِّر الأممَ بالحقّ (متى12: 18).

2. يسعدنا أن نحيّيكم جميعاً، ونحتفل معاً في هذه الليتورجيّة الإلهيّة، هنا في كرسينا البطريركي في الديمان، المشرف على وادي القدِّيسين. هذا الوادي المقدّس يمتدّ من دير مار إليشاع القديم بشري، إلى الكرسي البطريركي سيِّدة قنوبين، والمناسك القديمة المحيطة به، فإلى دير مار أنطونيوس قزحيا ومحبسته، وصولاً إلى دير سيدة النياح والدة الإله في حمطوره.

3. بلغت الرسالة المسيحية المارونية هذه المنطقة المقدَّسة في القرن السادس على يد القدِّيس سمعان، وهو من تلاميذ القدِّيس مارون، وارتفعت معه الصلبان على القمم والجبال المحيطة بقراها وبلداتها لحمايتها من الوحوش الضارية، وتهافت النسّاك إلى هذا الوادي السحيق وملأوه صوامع ومعابد حتى دعي “وادي القديسين” – قاديشا بالسريانية.

إلى هذا الوادي – الملجأ الذي يقي من اعتداءات المماليك والعثمانيِّين من بعدهم، جاء البطاركة الموارنة من سيّدة إيليج من بعد ان تنقلوا في بلاد جبيل بين جبل وواد وساحل على مدى خمسماية سنة. جاؤوا مع البطريرك يوحنا الجاجي سنة 1440 واستوطنوا دير سيدة قنوبين حتى سنة 1832 عندما انتقلوا مع البطريرك يوحنا الحلو إلى الديمان في بيت زراعي قديم أوّلاً، ثمَّ في كرسي دير مار يوحنا مارون مع البطريرك يوسف حبيش، حتى استقرّوا في الكرسي الحالي مع البطريرك خادم الله الياس الحويك الذي شرع ببنائه في أوائل سنة 1900، وأكمله خلفه البطريرك أنطون بطرس عريضه في الثلاثينات، ببناء الكنيسة وجناح البطريرك. في هذا الوادي عاش البطاركة على مدى 383 سنة، فالتفّ حولهم الشعب الماروني، وواجهوا، لا بقوّة المال أو السلاح أو النفوذ، بل بقوّة وحدتهم، الاعتداءات المتنوّعة بما فيها الحرق والضرب والابتزاز المالي. هذه الاعتداءات مورست عليهم وعلى بيوتهم وعلى بطاركتهم وكرسيّهم. لكنّهم اعتصموا بالعناية الإلهيّة وبسيّدة قنوبين. ومن حينه كرَّسوا الجبل اللبناني للسيدة العذراء مريم، سلطانة الانتقال، رفيقة دربهم. ونحن أعدنا تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر في السادس عشر من حزيران الماضي في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، وصلّينا ونصلِّي من أجل السلام في وطننا وفي بلدان الشَّرق الأوسط.

وقد انطلقت المبادرة بلقاء جماعات صلاة في معبد سيدة لبنان – حريصا، كل ثالث أحد من الشهر عند الساعة الثامنة والنصف ليلاً لتجديد هذا التكريس.

إن أريج الروحانيّة المارونيّة الأصيلة، القائمة على الإيمان بالله والصلاة والروح النسكي وبساطة العيش وشركة المحبة مع الكنيسة والبطريرك وحماية الوطن اللبناني، ما زال يعبق كالبخور من هذا الوادي، ويتصاعد ضباباً، من ذخائر النسّاك والقدِّيسين، ولاسيَّما من ذخائر السبعة عشر بطريركاً الذين تبتهج عظامهم في كابيلَّة القديسة مارينا، ويرافقون من سمائهم كنيستنا المارونية بالتشفُّع والصلاة. على أرض لبنان المقدّسة، كتب الموارنة تاريخهم وأنجبوا القدِّيسين الذين يتلألؤون كالشمس في ملكوت الآب” (متى13: 43)، ويشفعون بنا وبوطننا.

4. إنّنا نأتي إلى الكرسي البطريركي في الديمان لقضاء الصيف مع أبنائنا وبناتنا الموارنة في هذه المنطقة من شمال لبنان العزيز. نتفقدُّهم، نطّلع على أوضاعهم، نعمل على إنماء بلداتهم، نزور رعاياهم والمؤسَّسات والأديار، ونشدّد أواصر الشركة والمحبة معهم. ونأتي بنوع خاص إلى جذورنا المارونية، لكي نتجدّد في هويتنا على أساسٍ من روح التطويبات الإنجيلية، وهي التجرّد والوداعة والبساطة، بوجه الروح المادِّية والاستهلاكيَّة؛ وهي التزام الرحمة والسلام والخير، بوجه النَّزعة إلى الظّلم والخلافات وافتعال الشرّ؛ وهي الثبات والصبر والرجاء مع الاتِّكال على عناية الله، بوجه المحن والاضطهادات والاستقواء بالمال والسلاح والنفوذ.

5. قنّوبين الوادي المقدَّس أرض مقدَّسة وصورة عن لبنان – الأرض التي جمّلها الخالق، وأنبت منها القدِّيسين. تدعونا هذه الأرض لنتمسّك بها أرض جمال للروح الإنسانيّة والخلقيّة، أرض الحرية وقيم الروح، أرض ثقافة العيش معاً وحوار الحياة والمشاركة والتّعاون والتقاسم.

قنّوبين الوادي المقدّس مدرسة نتعلّم فيها الأركان التي قام عليها الكيان اللُّبناني وتهيّأت ونضجت في قنّوبين بقيادة البطاركة والتفاف الشعب الماروني حولهم، وهي الوحدة والسيادة والاستقلال. وقد تحقّقت كاملة بإنشاء لبنان الكبير في مؤتمر ال
سلام في فرساي – باريس سنة 1919، وقد ترأس الوفد اللبناني البطريرك الكبير، ابو الاستقلال، خادم الله مار الياس بطرس الحويك. وكان الإعلان الرسمي الكبير سنة 1920 في بيروت.

6. سأجعل روحي عليه، فيبشّر الأمم بالحقّ (متى12: 18)

    مسحة الروح القدس التي نالها يسوع، بحلول الروح عليه يوم المعمودية على نهر الأردن، أشرك فيها المسيحيين المؤمنين به، فنالوها واحداً واحداً بالمعمودية والميرون. وهي تندرج في خطّالاختيار الإلهيأن أكون مسيحيّاً يعني أن أكون حاملاً وجه المسيح. عن كل واحد منا قال الله يوم معموديته: “هوذا عبدي، فتاي، الذي اخترته ورضيت به”. بهذا القول حدّد هويتي المسيحانيّة التي توجب عليّ أن أحافظ عليها، وأتعمّق فيها وأتثقّف عليها، وأبادل، بجواب حبّ، الله الذي اختارني بحبّ.

   7. أمّا الرسالة المسيحية فمثلَّثة وهي:

   أ. إعلان إنجيل يسوع المسيح أي بشرى الحقيقة لجميع الأمم والشعوب، وهي حقيقة الله والإنسان والتاريخ. الحقيقة نور يهدي الأمم، ويفتح عيون العقل والقلب (متى 12: 18؛ أشعيا 42: 1 و6و7). إنّها رسالة الكرازة والتعليم كمشاركة في رسالة المسيح النبوية.

   ب. إخراج الأسرى من السجون أي المستعبدين للخطيئة والشر (أشعيا 42: 7). وإخراجهم بنعمة المسيح الفادي، الجارية كينبوع خلاص من موته وقيامته. وهي قوّة شفاء وتحرير من عبودية الخطيئة والضياع في ظلمة الشرّ. إنّها رسالة التقديس كمشاركة في كهنوت المسيح.

   ج. إحلال العدل وزرع الرجاء في النفوس (متى12: 20-21؛ أشعيا42: 4)، بسلطان الولاية المُعطى من الله للكنيسة، وبقوّة المحبة المسكوبة في القلوب بالروح القدس. إنّها رسالة التدبيركمشاركة في ملوكية المسيح.

   8. هذه الرسالة المسيحانية المثلّثة هي إيّاها رسالة الربّ يسوع التي أشرك فيها الشعب المسيحي بواسطة المعمودية والميرون، لكي يلتزموا بها، وهم يمارسون الشؤون الزمنية. وسلّمها لرعاة الكنيسة، الأساقفة ومعاونيهم الكهنة، بواسطة الرسامة المقدسة لكي يمارسوها بسلطان إلهي.

   إنّها وجود المسيحيين في لبنان وبلدان الشرق الأوسط لا يقتصر على الوجه السوسيولوجي أو الاقتصادي أو السياسي، بل وجودهم هو من أجل الشركة والشهادة، كما حدّدها البابا بندكتوس السادس عشر في الإرشاد الرسولي “الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة”.

   الشركة والشهادة هما موضوع اهتمامنا الأوّل ككنيسة. لا يمكن القبول بما يجري على أرضنا من ممارسات سياسيّة تفتعل وتُذكّي الخلافات والانقسامات وتعرقل المؤسَّسات الدستورية وتنتهك القوانين، وتغطّي التعديات بالسلاح على الاستقرار الداخلي. هذه كلّها تصبّ في الاعتداء على الإنسان المواطن وعلى العائلة الدموية وعلى العائلة الوطنية. وكلّها ممارسات تطعن الشركة والشهادة في الصميم.

   إنّنا نعمل مع قوانا الكنسية، من إكليروس وعلمانيّين ومؤسَّسات، على بسط الشَّركة وتفعيل الشهادة. وندعو كلّ أبناء الكنيسة وبناتها إلى الالتزام بهويتهم كمسيحيين وهي شركة المحبة مع الله والناس، وبرسالتهم التي هي الشهادة لهذه المحبة. هذا هو برنامجنا الذي نواجه به الأخطار المحدقة بوطننا وبهذا الشّرق.

   7. إنّنا، فيما نتمنّى لكم، أيها الإخوة والأخوات صيفاً هنيئاً وهادئاً، نرفع صلاتنا إلى الله، طالبين بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيدة قنوبين وسيدة لبنان، أن يفيض علينا نعمة الالتزام بهويتنا المسيحية ورسالتنا، وأن يجعل روحه القدوس علينا، فنبشّر الأمم بالحقّ. ومن قلوب صافية نرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير