اباء الصحراء، اشخاص عاديين، تركوا العالم وذهبوا للصحراء كي يبحثوا عن وجه الله، كي يتعرفوا عن حب الله ورحمته. تركوا المدينة وسكنوا الصحراء، فحولوا الصحراء مدينة. تركوا الناس ليجدوا الله وحده، فوجدوا الله والناس.
خبرة اباء الصحراء واقوالهم هي خبرة كل مسيحي حقيقي. ليست خبرة خاصة للرهبان او الكهنة. هي خبرة كل من يريد ان يشبع ذلك العطش الذي يملئه من الداخل.
هروب العالم والناس من اجل البحث عن الله، هي خبرة اساسية ولا مفر منها لمن يريد ان يختبر عمق الله ومحبته. هروب العالم ليس فقط معناه ان نترك كل شىء ونذهب للصحراء، هذا لبعض الناس، لكن الخبرة نفسها، هي لكل مسيحي.
الفقر، الطاعة والعفة وايضاً ترك كل شىء من اجل المسيح، دعوة ليست موجه للكهنة او المكرسين فقط. تلك الكلمة في الانجيل وجهت لاشخاص متزوجين، يعملوا، لديهم حياة طبيعية. قيلت تلك الكلمة في وقت لم يكن هناك الفرق بين علمانيين واكليروس؛ كان هناك فقط مسيحي. هي دعوة لكل من يرغب في ملء الحياة، لكن كيف؟ كيف نهرب من العالم بدون ان نتركه؟ كيف نختبر الفقر والطاعة والعفة ونحن في اعمالنا وحياتنا وزواجنا او كهنوتنا؟ كيف نحيا كمسيحين وسط العالم؟
اباء الصحراء واقوالهم، ليست قوانين للرهبان، او مقالات روحية، او واجبات دينية. ليست افعال للابطال او فقط القديسين العظماء. هي حياة تعبر عن حب الله الذي وجدوه واختبروه. هي رؤية للحياة بطريقة مختلفة عن رؤية ابناء العالم. هي رؤية للحياة بعيني ابناء الله. روئية سعيدة، بعيدة كل البعد عن الاخلاقيات البحتة اوالالزام اوالاجبار، هي حياة. حياة انسان قائم من الموت، موت العالم، الموت اليومي.
اباء الصحراء، كي يكونوا اباء تعلموا ان يكونوا اولاً ابناء ، ابناء للاب. اباء الصحراء والذي قادوا شعوب في الايمان تعلموا اولاً ان ينقادوا من الهامات الروح القدس. وهكذا اصبحوا اباء.
في هذه السلسلة من اقوال اباء الصحراء نريد ان نعرض بعض الاقوال والتعاليم، والتي نتمنى ان تكون دافعا ً، لكل من يشعر انه اقصي البعد عن تلك الحياة، ان يرغب في امتلاك ملء السعادة؛ ملء الحياة، ملء الحرية. ان يرغب في نيل طبيعة ابناء الله.
عن الكسل:
ذات يوم جلس القديس انطونيوس الكبير في الصحراء وأخذه روح وخم وكسل وحزن شديد، فبدأ يصرخ للرب ويقول: ” يا رب، أريد أن اخلص لكن الأفكار تحيط بي من كل جانب وتمنعني، فماذا افعل كي اخرج من حزني؟” وفجأة يرى بجانبه راهب أخر يعمل ثم يجلس ويصلي، وبعد ذلك يقوم ويعمل ثم يجلس ويصلي. فأدرك القديس انطونيوس أن هذا هو ملاك مرسل من الرب ليفهمه ان عمل الواجب عليه هو باب الخروج والهروب من الأفكار المحزنة التي أصابته. (راجع PJ VII, 1).
– كم هو عميق هذا التعليم للحياة الروحية: الحزن والكسل والوخم هو نتيجة رضوخ لبعض الأفكار المحزنة. فصراع الراهب والمكرس وكل مسيحي هو أولا صراع ضد الأفكار الشريرة والتي تخزوا الفكر من كل جانب. وقدرة هذه الأفكار في:
– أنها لا تبدو شريرة على أول وهلة: فمثلا فكرة انك دائما مظلوم، أو انك دائما الأقل وسط الآخرين، أو انك غير محبوب من شخص معين، فكرة انك وحيد ولا شخص قريب لك يفهمك،….تبدوا أفكار طبيعية وغير شريرة، ولكنها في العمق من الشيطان لأنها تولد بعد ذلك الحزن، أو الرغبة في الانتقام، أو الانسياق وراء إشباع الرغبات.
– إنها مريحة لنا في بعض الأوقات: حيث تشعرنا هذه الأفكار ان لدينا الحق والأخر مخطأ، فنتمسك بها وكأنها صديقة لنا.
– إنها منطقية جدا حسب العالم وتفسيراته. ولكننا ننسى ان سيد هذا العالم هو إبليس وهو ابو الكذب حيث انه يفسر كل شيء لنا بطريقة خاطئة.
اذا في البداية فكرة وتم قبولها فتولد الخطيئة: حواء تقبل فكرة ان الله لا يحبها فتجسد هذه الفكرة وتأكل من الشجرة.
وهذا ما يختبره القديس انطونيوس، لا نعرف ما هي الأفكار التي أحاطته لكننا نعرف انه بسببها وقع في الحزن والوخم والكسل. وها هو الرب يرسل له ملاك ليرشده، وقد يرسله لك أنت ايضا ويقول: قم واعمل ما عليك من عمل. هكذا تحارب الأفكار، لا تتحالف معها، اتركها، أنت قم واذهب الى عملك وصلاتك. هكذا تحارب الأفكار الشريرة: بالعمل اليومي والصلاة.