سنحاول الإجابة على هذا السؤال في ضوء العلوم الإنسانية أولاً ، ثم في ضوء الإيمان المسيحي ثانياً .
** العلوم الإنسانية وخاصة علم النفس تقول لنا : الإنسان كائن منفرد وفريد من نوعه، لا يمكن أن تحدده بكلمة واحدة، على الإطلاق ، فهناك تميز بين الرجل والمرأة ، الإنسان فرد من عدد كبير ( اسمه المجتمع ) يحمل اسم الجماعة، وجنسيتها وفي نفس الوقت منفرد وفريد ،فهو إنسان ضعيف وصغير جدا بالنسبة للكون ، وعنده قدرات كبيرة ، خاضع للزمن، ومسيطر على الزمن ، ” نحن الأيام، كما نحن تكون أيامنا ” (القديس اغسطينوس ) وهناك تناقض داخل الفرد الواحد فانه قادر على فعل أسوا شر ، وقادر على فعل اسمي خير ، الإنسان وليد الماضي القابع في لاوعي . إن هذا اللاّوعي يقوده ويتحكم في تصرفاته دون وعي منه ، هذا ما عبّر عنه بشكل رائع القديس بولس عندما قال : ” إن الخير الذي أريده لا أفعله ، والشر الذي لا أريده إيّاه أفعل ” .
الإنسان ذلك الكائن الوحيد الذي يطور نفسه بيده ، وفي نفس الوقت كثير من تطورات الإنسان سلبية ، اعني كلما ينمو خيره ينمو شره .
أي الإنسان لا يستطيع إن يكون في وضع ثابت فان قانون حياته هو التغيير والتجديد المستمر فهذه الإمكانيات يسيطر عليها الإنسان ، وفي نفس الوقت تسيطر هي بدورها على الإنسان ( مثلا بدون كهرباء لا نستطيع أن نعيش ، وكذلك التليفون ……الخ )
الإنسان في نظر العلوم الإنسانية ، مدعو إلى الإنسانية الكاملة ، وهو لا يمكنه أن يتقدم في إنسانيته ، لا يمكنه أن يصبح إنساناً إلاّ من خلال النظام الإلهي ، فقانون الطبيعة ، وُضع لكي يسمح للإنسان أن يصبح إنساناً ، لكي ” يندمج ” مع التصورات والصور التي يقدمها له المجتمع عن ماهيته ؛ فالطفل ، على سبيل المثال ، لكي يصبح إنساناً عليه أولاً أن يصبح إما رجلاً وإما امرأة ، عليه أن يندمج مع التصور والصور التي يقدمها له المجتمع من خلال والديه عن كل من الرجل والمرأة . وعليه فالقانون الإلهي وُضِع من أجل الفرد وليس ضده ، وضع لكي يفتح أبواب المستقبل أمام الإنسان .
والكتاب المقدس إذ يعرض علينا الوصايا العشر ( القانون الإلهي) فلكي يفتح المجال أمام الإنسان ليختار الطرق التي يريدها من أجل أن يتقدم في مسيرته الإنسانية والروحية ، فالقانون يسمح للإنسان أن يميّز بين الوسيلة والهدف في الحياة . ” جُعل السبت للإنسان ، لا الإنسان للسبت ” (مر2/27) . تكشف لنا العلوم الإنسانية أن الإنسان ، حراً بطبيعته، وهو مدعو إلى الحرية ليصبح إنساناً . لكنه في الحقيقة عبد لأمور كثيرة ، الرغبة في التسلط ، المال ، والجنس، عبوديته للآخر ، كل هذه العبوديات تقوده ، في نهاية الأمر ، إلى عبودية أساسية هي عبودية الذات ( الأنانية ) . فعندما يكون الإنسان عبداً لأي أمر كان فلأن هذا الأمر ينبع من ذاته وبالتالي لا يكون حرّاً أمام عدم تلبيته هذا الأمر . الإنسان في الحقيقة ، عبد لذاته . والحرية الحقيقية التي نحن مدعوون إليها كبشر وكمسيحيين خاصة هي الحرية تجاه الذات . هذه الحرية هي مسيرة لا تنتهي، يعيشها الإنسان ويناضل من أجلها طوال حياته ، وهي التي تعطي المعنى لحياته . هذه الحرية تتم بمقدار ما أخرج من ذاتي للقاء الآخر ، أو بمعنى ثانٍ ، هذه الحرية تكمن في أن أجعل الآخر محور حياتى بدلاً من أن أكون أنا محوراً لذاتي ، لأن هذه الحالة الأخيرة تعني ، بكل بساطة ، الموت .
فالإنسان كالكائن جسداني مُصير في حياته كلها ، وكالكائن روحاني مُخير
المسيح يكشف مَنْ هو فالإنسان ، وما هي دعوته ؟ :
يبقى الإنسان سرّاً عميقاً يصعب معرفة أعماقه .
إن كلمة ” سر ” هنا لا تعني ما لا يُفهم أو ما هو مخفي . إنما تعني ما لا ينتهي الإنسان من فهمه ، ولا يمكن فهم الإنسان ومعنى حياته إلاّ في ضوء العلاقة الصحيحة مع الله . لقد صار المسيح إنساناً (التجسّد) كي يكشف لنا مَنْ هو الإنسان ، ومَنْ هو الله .
لقد كشف لنا المسيح ، من خلال حياته وأعماله ، حقيقة الإنسان التام ، أي الإنسان في قمة إنسانيته ، الإنسان المدعو إلى أن يبلغ إلى ملء قامة المسيح على حد تعبير القديس بولس . إن الإنسان في قمة إنسانيته بذل وعطاء كلي من أجل الآخرين ” وأبذل نفسي في سبيل الخراف ” ( يو 10 /15 ) كان يسوع كله من أجل الآخرين وهو صورة لما يجب أن نصير إليه . إن المسيح هو الإنسان الكامل ، أي الإنسان كما يجب أن يكون .
إن ما يجعل الإنسان إنساناً هو الانفتاح على الآخرين ( الحب ) . إن كل انطواء على الذات يفقدنا إنسانيتنا . دعوة كل إنسان هي أن يصبح على صورة يسوع المسيح . أن يتخلّى عن الإنسان القديم ليصير حسب تسمية القديس بولس آدم الجديد .
هذه الدعوة نجد جذورها في أنشودة الخلق حيث يحتل الإنسان مكاناً متميّزاً بين سائر المخلوقات إذ خلقه الله على صورته ومثاله ، أي قادراً أن يعرف ويحب خالقه ويشاركه في حياته ؛ هو ذا صاحب المزمور يهتف متعجباً ” ما الإنسان حتى تذكره ، وابن الإنسان حتى تفتقده ؟ دون الإله حَطَطَته قليلاً ، بالمجد والكرامة كلّلته ، على أعمال يديك ولّيته ، وكل شيء تحت قدميه جعلته ” (مز 8 / 5 – 7) “عبر عنها أيضا القديس فرنسيس الاسيزي في نشيد الخلائق… اختنا الشمس … أخونا القمر… كلها تعابير تضع الإنسان في علاقة مع الخليقة كلها ومع المجتمع ومع نفسه اي قبول ذاته وكالكائن يقبل كل الإبعاد التي داخل ذاته والإبعاد المختلفة داخل المجتمع بذلك يستطيع ان يحب ويساعد الآخرين ويقبل الاختلاف التي تساعده على النمو.
المسيح آدم الجديد هو الإنسان الكامل الذي رسم صورة
الله في الإنسان . لكن هذه الصورة شوهتها الخطيئة . الإنسان مدعو إلى الكمال إذاً والذي يعيقه عن أن يكون كاملاً هو الخطيئة الساكنة فيه . إنه بتجسّد الكلمة اتّحد ابن الله بكل إنسان مانحاً إياه القدرة على استعادة الصورة الأصلية التي خُلق عليها ” هو صورة الله الذي لا يُرى ، وبكرُ كل خليقة ” ( قول 1 / 15 ) .
عندما يصبح المسيحي مطابقاً لصورة الابن يصبح على مثال المسيح إنساناً تاماً أي إبناً لله على صورته وشِبهه . هذا هو التألّه الذي يتحدث عنه غالباً آباء الكنيسة عندما يحددون غاية التجسّد : ” لقد صار الله إنساناً حتى يمكن الإنسان أن يصير إلهاً ” ( ايريناوس ) .
إن الدعوة الحقيقية لكل إنسان هي إذاً أن يصير على مثال تلك الصورة ، وأن يحقق الشبه بينه وبين الله. ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى ذلك إلاّ بالمشاركة في حياة الله ، لأن الله يريد أن يَهَبَ لنا حياته ، وقد أشركنا في ألوهته . إن تحقيق هذه الدعوة يتطلب التعرّف إلى وجه الله الحقيقي وهذا ما كشفه لنا يسوع المسيح ، لذلك لن يجد الإنسان معنى لحياته إلا بالتعرف إلى يسوع المسيح . هذه المعرفة هي الكنز الحقيقي في الحياة بحيث تبدو أمامه كل كنوز الأرض باهتة . ” بل أُعدُّ كل شيء خسراناً من أجل المعرفة السامية ، معرفة يسوع المسيح ربي ، من أجله خسرتُ كل شيء وعَدَدتُ كل شيء نِفاية لأربح المسيح وأكون فيه ” ( فل 3 / 8 – 9 )
قيمة الإنسان
يكشف لنا يسوع كم هي كبيرة قيمة الإنسان في عيّني الله . ” إذ قد صرتَ كريماً في عينيَّ ومجيداً ، فإني أحببتك ” ( أشعيا 43 / 4 )
عندما يولد طفل في العالم يبدو لأول وهلة أنه نقي وبلا خطيئة، ولكن سرعان ما يبدأ الشر بالظهور فيه. وذلك كما قال النبي داود عن نفسه: “هانذا بالاثم صورت و بالخطية حبلت بي امي “(مز 51: 5). ولذلك فإننا مجبرون على الاعتراف بأن كل البشر خطاة، ونُقر بصحة كلمة الله التي تقول: “القلب اخدع من كل شيء و هو نجيس من يعرفه ” (إرميا 17: 9). أن يسوع المسيح قال: لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل ، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان (مرقس 7 : 21- 23). والله الذي يعرف قلوب كل الناس قال: “كما هو مكتوب: أنه ليس بار ولا واحد ” (رومية 3: 10).
هذه الحقيقة تتجلى بصورة واضحة في توبة لص اليمين وحديثه مع المحب للبشر المسيح الرب ،حيث يجيبه يسوع :” الحق أقول لك : ستكون اليوم معي في الفردوس ” ( لو 23 / 43 ) إن الله لا يهمل ولا ينسى مصير أي شخص . إن صورة الله كما تُظهرها أمثال: الدرهم المفقود ، الخروف الضال ، العبد العديم الشفقة ، الابن الضال ، وغيرها ، هي صورة الأب المحب الذي لا حدود لمحبته ، فكل إنسان مهما كان وضعه هو محبوب من الله ويجد بين ذراعيه كل عطف ورحمة ومسامحة داعياً إيّاه إلى المشاركة في حياته ” ما هو لي هو لك ” ( لو 15 / 32 ) إنه أب كلّي الجودة ، مسامح لا يُقيم وزناً للحسابات .
إن قيمة الإنسان في عينيّ الله لا تُقدّر بثمن ، إذ يعطي حياته فداء من أجل الإنسان . إن حياة يسوع كلها كانت تعبيراً عن محبة الله اللاّ محدودة . وإن خلاص الإنسان مرتبط في النهاية باستقبال هذا الحب .