عظة الكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي ، زحله – الأحد 28 تموز 2013

“يا زكا، أسرِعْ وانزِلْ، فعليّ أن أُقيمَ اليوم في بيتك” (لو 19: 5)

Share this Entry

 1. يسوع المسيح الذي، هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد (عبرا 13: 8)، يمرّ على دروب حياتنا وفي كلّ ظروفها الحلوة والمرّة، ينتظر من كلّ واحد منّا توقاً إليه في قلبه ورغبةً في لقائه، لكي يأخذ المبادرة، كما فعل مع زكّا العشّار، ويقول لكلِّ واحد منّا: أسرعْ وانزل من حالتك، من ذاتك، من غناك، من حزنك، من يأسك، من شكّك، “فعليَّ أن أقيمَ اليومَ في بيتك” (لو19: 5).

   2. يسعدني أن أقوم بزيارة أبرشيّتنا المارونيّة في زحله بدعوة كريمة من راعيها سيادة أخينا المطران منصور حبيقه السامي الاحترام الذي أُحيّيه بكلِّ امتنان. أقوم بها مع أخوينا المطرانَين بولس صيّاح النائب البطريركي العام، وطانيوس الخوري ابن صغبين والأبرشيّة، رئيس أساقفة صيدا السابق، ويرافقنا الى جانب امين سرّنا والقيّم البطريركي ومكتبنا الاعلامي في البطريركية، المدير العام للمؤسّسة الاجتماعيّة المارونيّة الأب نادر نادر، ومنسِّق مكتب الإنماء في الدائرة البطريركية الأب لويس سماحة للاطلاع على ما يمكن القيام به من مبادرات على الصعيد الانمائي. يطيب لي أن نحيّي اصحاب السيادة المطارنة اندره حداد جورج اسكندر كيغام ختشريان والمطران المنتخب على ابرشية طرابلس للروم الملكيين الكاثوليك ادوار ضاهر الحاضرين معنا متمنّين الشفاء العاجل والكامل لسيادة المطران عصام درويش والعودة بالسلامة لسيادة المطران بولس سفر. واحيي اللبنانية الاولى الاسبق السيدة منى الهراوي، وسعادة المحافظ واصحاب المعالي الوزراء والسّادة النوّاب وسائر الفعاليّات السياسيّة والإداريّة والعسكريّة والاعلامية والكهنة والرهبان والراهبات وهذا الجمع المؤمن.

   لقد شئنا مع سيادة راعي الأبرشية أن تنحصر الزيارة بكرسي المطرانيّة وكاتدرائيّتها في مدينة زحله لنلتقي فيها معظم أبناء المدينة والأبرشيّة وفاعلياتها الكنسية والمدنية. وقد ضحّينا بزيارة الرعايا والمؤسَّسات، نظراً للأوضاع الراهنة في المنطقة، حيث يسود القلق والحزن والاضطراب. وآلينا على انفسنا معكم تجنّب طابع البهرجة والتعبير الخارجي عن الابتهاج، تضامنًا مع المتألّمين. ولكنكم عبّرتم عن فرحكم ومحبتكم بحضوركم وباليافطات التي كتبتم عليها من مكنونات قلوبكم وتطلعاتكم. فالشكر عليها من صميم القلب. وكان عزيزًا علينا أن نلتقي بكم، ونسمعكم، ونطّلع على أوضاعكم، ونفكّر معاً في ما يجب فعله لتجنيب المدينة والمنطقة تداعيات الأحداث والتوترات الجارية، ونشدد روابط الشَّركة والمحبة، والتضامن والتعاون على مختلف المستويات.

   3. احيي عائلة العزيز كريكور فوسيان الحاضرة معنا، ونجدد معكم النداء من اجل العمل الجدّي للافراج عنه، هو الذي خُطف منذ اسبوعين في منطقة عرسال، رحمةً به وبعائلته، وهو الذي تميّز بصنع الخير وتوفير فرص العمل ونشر السلام. ونقدّر كل المتضامنين مع عائلته في النداء والمطالبة بالافراج عنه، وفي شجب ظاهرة الخطف الغريبة عن بيئتنا وثقافتنا وحضارتنا.

       واذ نصلّي في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة على هذه النيّة، نصلي ايضًا من أجل نجاة  لبنان، والسلام فيه وفي منطقة الشّرق الأوسط، ولاسيّما في العراق وسوريا ومصر.

       كم هو جميل ان نلتقي كأخوة واخوات بالمسيح في هذه الكاتدرائية الجميلة، كاتدرائية مار مارون، وفي هذه المطرانية. ويطيب لي الاعراب عن الشكر والتقدير لسيادة المطران جورج اسكندر مطران زحله السابق واول مطران عليها الذي ارسى اساساتها وبدأ اعمالها، ولسيادة المطران منصور حبيقة الذي اكملها بكثير من الذوق واللياقة بمؤآزرة العديدين من الموارنة وسواهم، ومن مسيحيين ومسلمين، وعلى رأسهم المغفور له المرحوم الياس الهراوي رئيس الجمهورية اللبنانية والسيدة عقيلته اللبنانية الاولى الاسبق منى الهراوي. نسأل الله المكافأة الحسنة من فيض نعمه على الاحياء، والراحة في سعادة السماء للذين غابوا عنا.

       4. وإنّنا نواكب بصلاتنا قداسة البابا فرنسيس الذي يُنهي اليوم لقاءه مع شبيبة العالم في ريو دي جنيرو، ويوجّه كلمته الهادية إلى هذه الشبيبة. ونأمل ان نجعل من كلماته برنامج عملنا مع شباب لبنان. فنسأل الله ان يحقّق أمنيات قداسة البابا، وأن تؤتي الأيام العالميّة للشبيبة ثمارها المرجوّة لخير الشباب والكنيسة والمجتمع.

   5. لم يدخل يسوع بيت زكّا ديّاناً، بل دخله رحومًا مُحبًّا. لم يوبّخه على أخطائه، بل مسّ قلبه بحبّه وتفهّمه. ما جعل زكّا يقف ويعترف تلقائيًّا بأخطائه، ويقرّر التعويض عنها. فكرجل غني، إرتسم أمام ضميره إهماله للفقراء، فصمّم على إعطائهم نصف مقتنياته. وكعشّار، هزّ ضميره ظلمُه للناس في جمع العشور، فصمّم على التعويض بأربعة أضعاف للّذين يكون قد ظلمهم.

   فكان جواب يسوع أن “دخل الخلاص اليوم هذا البيت“. هذه هي نتيجة اللقاء الشخصي بالمسيح. رغب زكّا، في الأساس، في أن يرى يسوع رؤية خارجيّة، من باب الفضوليّة. لكن هذه الرغبة المعبّر عنها في مبادرته المتواضعة بتسلّق الجميّزة ليرى يسوع، غير آبه بموقعه الاجتماعي كرجل غنيّ ورئيس العشّارين، قدّرها الربّ يسوع، وكافأه بالإقامة في بيته، وكأنّه كان يتحيّن الفرص ليلتقي بزكّا. فكان اللقاء الوجداني معه، وكانت عملية التغيير و “الولادة الجديدة”. اللقاء الشخصيّ مع يسوع هو اللقاء مع الحقيقة التي تُحرّر وتُنير وتبدّل. لا أحد في الدنيا هو
سيّد الحقيقة، ولا يمكننا أن نوظّف الحقيقة كأنها شيءٌ نمتلكه ونستعمله في ما يناسبنا. وحده الروح القدس الذي وعد به يسوع، هو “روح الحق الذي يقودنا إلى الحقيقة كلّها”(يو16: 12-15).

   6. بحادثة اللقاء مع زكّا، علّمنا الرب يسوع كيف نقارب الناس ونحاورهم لخيرهم وخير المجتمع. إنّه مثال لكلّ أسقف وكاهن وراهب وراهبة، لكلّ مؤمن ومؤمنة، لكلّ مسؤول في العائلة والمجتمع والدولة بحيث يكون منفتحًا على الجميع، ومستعدًا لسماع الجميع، دونما استثناء. هذه الميزة تناقض واقع الانقسام الذي نعيشه في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، حيث تمييز سياسي وعنصري وديني ومذهبي، وبالتَّالي انقطاع الحوار، ورفضه مع الادّعاء بأنّه لا يُجدي نفعًا، وبالتالي إتّهام وتخوين وأحكام مسبقة. هذا كلُّه يناقض ويعاكس إنجيل المسيح الذي هو إنجيل الحوار والتلاقي. نسمع اليوم بكل اسف هذه اللغة: “هؤلاء ليسوا منّا، ليسوا معنا، هم أعداؤنا، لا تكلّموهم، لا تخالطوهم”! هذه ليست لغتنا اللبنانية الاساسية ولا ثقافتنا.

   الربّ يسوع لا يقصي أحداً ولا يهمل أحداً. يوصينا قداسة البابا فرنسيس، ويواصل نداءه من البرازيل، طالباً منّا الخروج من الذات والمصالح الصغيرة واللامبالاة بالغير ويدعونا للذهاب نحو الاخوة المرضى والحزانى والفقراء والمُهمّشين والمُهملين، اجتماعيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً. ولفعل ذلك بروح الإنجيل، فيما الربّ يسوع يسمّي هؤلاء “إخوته الصغار”. وسيديننا ثواباً أو عقاباً على ما نكون قد صنعنا لهم بواجب المحبة والعدالة (متى 25: 40 و45).

7. لا يسعني في هذه المناسبة إلّا أن أدعوكم ايها الاحباء إلى مواصلة عملكم وتضامنكم، من أجل الوحدة والمصالحة في مدينة زحله ومنطقة البقاع، وإنمائها وازدهارها وخير سكّانها ونناشد المعنيين من الرسميين بذل المزيد من الجهد للمساهمة في ذلك. إنّ وحدتكم وتضامنكم ووعيكم لسبيلٌ أكيد إلى الاستقرار فيها، وإلى تجنيبها تداعيات الأحداث في الداخل وفي الخارج، ولاسيّما في سوريا. وندعوكم للمحافظة على الارض التي تمتلكونها حفاظًا على هويتكم وتاريخكم واساس وجودكم ومعنى حضوركم آملين معكم استثمارها زراعيًا وصناعيًا بدلاً من بيعها. وإنّي أُحيِّي إخواننا النازحين من سوريا، ونتمنّى لهم راحة البال والعيش بسلام واحترام وتعاون مع اللّبنانيين المستضيفين، الذين أشكرهم على حسن استضافتهم لهم، آملين أن يعودوا بأسرع ما يمكن إلى بيوتهم وأراضيهم في سوريا. ونطالب معهم الأطراف المتنازعة بإيقاف نار الحرب، ورمي السلاح جانباً، والذهاب إلى طاولة المفاوضات والتّحاور، من أجل إيجاد حلول سلميّة عادلة تكون لصالح الجميع. ونطالب الدول، الإقليميّة والدوليّة، التي تذكي نار الحرب بالتحريض وبإرسال السلاح لهذا وذاك من الأفرقاء المتنازعين، أن يكفّوا عن هذا العمل المشين الذي يشكّل وصمة عار على جبين الانسانية، وأن يتّقوا الله في عباده، ويرفعوا الظّلم عن الضحايا البريئة التي تدفع ثمن الحرب والنزاعات والسياسات التحريضيّة.

8. أُسعدنا، نهار أمس، باللِّقاءات التي جمعتنا على التَّوالي مع السَّادة الوزراء والسادة نوّاب زحله والبقاع الغربي وراشيا، ومع الفاعليات السياسية في المدينة ورؤساء الكتل والأحزاب، وقد أطلعونا على الأوضاع السائدة في المنطقة وعمّا يقومون به من نشاط من اجل وحدتها الداخلية، والحوار، وتجنيبها التداعيات السلبيّة. ثمّ مع كهنة الأبرشيّة الذين تناولنا معهم التحدِّيات والحاجات التي تواجهها خدمتهم الراعوية، وضرورة تطويرها في إطار الكرازة الجديدة بالإنجيل، روحيّاً واجتماعيّاً وإنمائيّاً، والحاجة إلى المزيد من التعاون بين المؤسَّسات الكنسيّة التربويّة والاجتماعيّة والإنسانيّة. وقدّرنا عملهم بتوجيهات سيادة راعي الأبرشية، وعمل المجالس واللجان في المطرانية والأبرشية والرعايا، والتفافهم جميعًا حول راعيهم.

وقدّرنا عمل المجالس البلديّة والاختياريّة في المدينة وبلدات المنطقة، وقد التقينا رؤساءَها ومخاتيرَها، وأكّدنا لهم قرب الكنيسة منهم في عملهم من جهة، وفي كلّ ما يختصّ بإنماء الإنسان والمجتمع في دائرة مسؤوليَّاتهم.

وسررنا بلقاء أخويات الكبار والشبيبة والطلائع والفرسان والكشاف الماروني واللبناني، والجمعيات الخيرية والانمائية والصليب الأحمر وسائر المنظمات والحركات الرسولية، وقدّرنا حيويتهم ونشاطهم؛ واستكملنا الاطّلاع على الأوضاع الاجتماعيّة والراعويّة مع الوفود الآتية من الرعايا مع كهنتها ومجالسها ولجان أوقافها، حاملين همومهم وتطلّعاتهم وانتظاراتهم. وختمنا اللقاءات ببرنامج التنشئة المسيحية، فأعربنا لهم جميعًا عن قربنا منهم، وعن حضورهم في قلبنا وصلاتنا. وثمّنا دورهم البنّاء على المستوى الكنسي والاجتماعي والوطني، بروح الشركة والمحبة.

   9. وصباح اليوم كان لقاؤنا مع راهبات زحله والبقاع، واطّلعنا على عملهنّ الرسولي في المنطقة عبر المؤسَّسات التربويّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة. وركّزنا معاً على ضرورة تنسيق الجهود والقوى من أجل خدمة أفضل وأشمل، يستفيد منها الجميع.

   وسنزور بعد الظهر مركز بلديّة زحله المعلّقة، وإخواننا السَّادة المطارنة في كراسيهم الأسقفيّة، من أجل تعزيز علاقات المودّة ومجالات الت
َّعاون بين الكنيسة المارونيّة وكلّ من كنيسة الروم الكاثوليك، والروم الأرثوذكس، والسريان الأرثوذكس والارمن وفيما بينها. سنصلّي معاً من أجل وحدة المسيحيّين، ومن أجل السلام في منطقة الشّرق الأوسط. وسنرفع الصوت عالياً مطالبين بمعرفة مصير أخوَينا المطرانَين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم، والكاهنَينميشال كيّال واسحق محفوض وسائر المخطوفين، وبالإفراج عنهم.

   10. في هذا الظرف الاقتصادي والاجتماعي الخانق، علينا كمؤسَّسات كنسيّة ومدنيّة، وكمجتمع أهلي أن ننظّم التعاون والتضامن ومحبّتنا الاجتماعية لكي نعمل من أجل حماية، ما سمّاهم قداسة البابا فرنسيس الأعمدة الأساسيّة للوطن وثروته غير المادّية، في خطاب له أوّل من أمس في ريو دي جنيرو، وهي:

   الحياة البشرية، هذه العطيّة من الله والقيمة التي ينبغي حمايتها وتعزيزها.

   العائلة، وهي أساس العيش معاً والخلية الحية للمجتمع والمدرسة الطبيعية للقيم الانسانية والاخلاقية.

   التربية الشاملة التي لا تقتصر على مجرّد نقل معلومات من أجل الاستفادة والربح، بل تكمّله بتكوين شخصيّة الإنسان من كلّ جوانبها وبكلّ أبعادها.

   الصحة الجسدية والروحية والأخلاقية التي تضمن الاتزان الإنساني، وسلامة العيش معاً.

   الأمن مع الاقتناع بأنّ العنف يولّد العنف، ولا يمكن التغلّب عليه إلّا بتغيير القلب البشري.

   11. في ختام هذه الزيارة الراعوية، التي كنّا نتمنّى لو شملت كلّ رعايا الأبرشيّة، وإن شاء الله سنعوّض، أودُّ الإعراب عن امتناني لكم جميعاً، أفراداً وجماعات ومقامات رسميّة كنسيّة ومدنيّة، ولوسائل الإعلام التي نقلت وقائع الزيارة. أشكركم على حفاوة استقبالكم وعلى حرارة محبَّتكم وعلى حضوركم من مختلف المناطق. إنّي أؤكِّد لكم أنّكم في صلاتي وقلبي وموضوع محبتي وتقديري.

   ونعود إلى الكرسي البطريركي أغنياء بمحبتكم وبما رأينا وسمعنا، ومعتزّين بكم، وحاملين معنا الكثير ممّا يجب علينا فعله بمؤآزرتكم لخير زحله والبقاع الغربي وراشيا، بل ولخير البقاع كلّه ولبنان وشعبه. إنّنا بوحدتنا وتضامننا وتعاوننا نستطيع الكثير. فليباركنا الله بنعمته، الآب والابن والروح القدس، له المجد والشكر إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير