“وعادَ بَنو إِسْرائيلَ فصَنَعوا الشَّرَّ في عَينَيِ الرَّبّ. فأَسلَمهمُ الرَّبُّ إِلى يَدِ أعدائِه أَربَعينَ سَنَة” (قضاة: 13/1). بهذه الآيةِ يبدأ الفصلُ الثالثُ عشر من كتاب القضاة. ثم يُعلنُ ولادةَ شمشون ويحكي قصّتَه. قد تبدو تلكَ الآيةُ عاديةً: الشعبُ أخطأ، والرب عاقبهُ وتركهُ في أيدي أعدائِه. وماذا عملَ بهم الأعداء؟ استولوا على أراضيهم، استغلّوا الناس، جعلوهم عبيداً لهم.
نعم، الآيةُ عاديةٌ إذ تُخبرُنا عن عقابِ الرب. ولكنها خطيرةٌ ومثيرةٌ للشكوك … فهى تعنى هذا: أن الربَ يعاقبُ من يفعلُ الشرّ. فالربُ إذاً مثلُ الإنسان، يُعاقبُ من يسيءُ اليه؟ يأخذُ ثأرَه منِّي، لأني أخطأت؟
فأين الرحمةُ، ولماذا يطلبُ مني أن أغفرَ سبعينَ مرةً سبعَ مرات، إذا أخطأ أخي اليَّ؟ فكم مرةً أخطأ الشعب؟ هل أكثرَ من سبعينَ مرةً سبعَ مرات، كي يُعاقَب؟ أم أنَّ إلهَ العهدِ القديم مختلفٌ عن إلهِ العهدِ الجديد؟ … وما هو العقاب؟ …
نهر من الأسئلة قد يجرفنا، إذا نظرنا إلى الآية السابقة حرفيا وبلا دراسة، مكتفين بما قد يقال لنا: “هو كده”. مهم أن يجرفنا هذا النهر. ولكن من المهم أن يجرفنا في المسار الصحيح، في نهر الكنيسة. هنا يهبّ الروح ويأخذنا الى حيث لا ندري، ولا نتوقع. فنجد في النهاية شخصا ينتظرنا، شخص المسيح.
نعود الى العقاب. لاهوت العقاب في الكتاب المقدس، بعيد جدا عن نظرتنا القانونية البحتة له. فالعقاب عندنا إجراء نردع به المذنب، كي يتعلم ولا يعود من جديد الى فعلته، ويتعلم الشخص مدى ذنبه فيتوب عنه ولا يفعله من جديد. كما أنه تنبيه وإنذار لمن تسوِّل نفسه عملا خاطئ أو ضار. كل هذا صحيح.
ولكن العقاب في الكتاب المقدس هو أكثر وأجمل. أول من عوقِب في الكتاب المقدس، هو آدم وحواء بعد خطيئتهما. هذه الخطيئة التي تقوم أولا في شكّهما في حب الله لهما، وفي تصديقهما إبليس الذي خدع حواء بقوله لها: الله لا يحبكما، الله يغار منكما، يريد أن لا تأكلا من الشجرة فتصيرا مثله … فالخطيئة، قبل الأكل من الشجرة، هي التصديق بان الله لا يريد لي السعادة. ويستخدم إبليس تفسيرا مغلوطا كي يقنع الإنسان بهذه الفكرة.
هكذا مثلا قد يخطر على قلبنا: إذا كان الله يحبك فلماذا لا يشفي ابنك؟ ها أنت متديّن تصلي وتصوم، وهو لا يستجيب ؟ الله لا يحبك … لماذا لا يساعدك في وحدتك؟ … لماذا لا يمنحك ما تريد؟ … أرأيت؟ … هذا دليل على انه لا يحبك … نعم الله لا يحبك! … عليك إذا أنتَ أن تأكُل من الشجرة، كي تصبح سعيدا بقوّتك … لا تنتظره، لا تعتمد عليه.
وحواء، صورة لكل إنسان. تصدّق إبليس فتأكل. وبالفعل نفسه، تنفصل عن الله. تعلن بفعل ملموس، أنها انفصلت عنه واتحدت بفكر إبليس. أي إنها ماتت روحيا، انفصلت روحها عن صانع الحياة. وهذا هو الموت الحقيقي … فيأتي طرد آدم وحواء من الجنة وموتهما الجسدي، تجسيداً لما تحقّق فعلا في قلبهما.
فالعقاب ما هو الا تجسيد لواقع داخلي يحياه الإنسان بالخطيئة. والله في رحمته، يجعل الإنسان يختبره ويلمسه واقعيا، كي يرجع ويتوب. العقاب ليس كراهية للشخص، بل هو رحمة تبيّن له ما بداخله فعليا وهو لا يراه.
الرب يسلم الشعب إلى أعدائه، لأن الشعب في داخله أسلم نفسه للعدو الحقيقي، إبليس. أسلم نفسه له، فصار عبدا للخطيئة. وها هو الله يعلن ذلك بطريقة متجسدة، كعادته. يسلم الشعب الى أعداء ظاهرين، كي يلمسوا استسلامهم لعدّوهم غير الظاهر.
هذا هو العقاب. بل هذه هي رحمة العقاب. لأن من سيُعاقَب حتى النهاية ويحمل أثر الخطيئة، هو في الحقيقة الابن الأزلي، الذي دبّر الله أن يحمل خطايانا فنحيا ببّره. هذا العقاب_المحبة قد يجعل الإنسان يشعر بالرغبة في التوبة والعودة إلى الله فيحيا، ليس فقط خوفا من العقاب، بل كي يرجِع ابنا حرا من جديد، قادرا أن يحيا حسب مشيئة الله. نعم العقاب رحمة وعلامة حب، بل ودليل على البنوّة. كما تقول الرسالة إلى العبرانيين: “لأنَّ من يحبّهُ الربُّ يؤدِّبُهُ، ..فتحمّلوا التأديب، والله إنما يعاملكم معاملةَ البنين، وأيُّ ابنٍ لا يؤدَّبُه أبوه ؟ … … الله يؤدِّبُنا لخيرنا فنشاركُهُ في قداستِهِ. ولكنْ كلُّ تأديبٍ يبدو في ساعتِهِ باعِثا على الحزن، لا على الفرح. إلاَّ أنه يعود فيما بعدُ على الذين عانوه، بثمرِ البرِّ والسَّلام” (12: 6- 11).
نعم، كان الشعب تحت وطأة أعدائه … ونحن في أوقات كثيرة، في حزننا وعدم سعادتنا، في عدم إحساسنا بالراحة والطمأنينة، في وقت الوحدة أو العزلة، في ضعفنا، في استسلامنا لواقع معيّن لا نستطيع الخروج منه … كيف نفسّره؟ هل نشعر أن ذلك قد يكون تأديبا من الرب؟ هل ندرك أنه دافع كي نرجع إلى الله لأننا ابتعدنا عنه؟ … أم ننسبه إلى شخص ما، أو إلى وضع خاص، أو إلى سوء الحظ؟
في حالة بني إسرائيل التي ذكرناها في البداية، ماذا كان على الشعب أن يفعل ؟ … لا يعطى الكتاب المقدّس ردا على هذا السؤال، بل يقول لنا ماذا يفعل الله.
– يتبع –