" ونَزَلَ شِمشونُ إِلى تِمنَة، فرَأَى في تِمنَةَ امرَأَةً مِن بَناتِ فَلِسْطين. فصَعِدَ وأَخبَرَ أَباه وأُمَّه وقال: رَأَيتُ في تِمنَةَ امرَأَةً مِن بَناتِ الفَلِسطينِيِّين، فاتَّخِذها الآنَ لي زَوجَةً فقالَ لَه أَبوه وأَمُّه: أَلَيسَ في بَناتِ إِخوَتِكَ وفي شَعْبي كُلِّه امرَأَةٌ، حتَّى تَذهَبَ وتَأخُذَ امرَأَةً مِنَ الفَلِسطينِيِّينَ؟ فقالَ شِمْشونُ لأَبيه: (بل إِيَّاها تَأخُذُ لي، لأَنَّها حَسُنَت في عَينَيَّ). ولَم يَعلَمْ أَبوه وأُمُّه أَنَّ هذا كانَ مِن قِبَلِ الرَّبّ " (14: 1-4).
كبر الصبي، وها هو يبحث عن امرأة ليتزوجها. هل كان يفهم دعوته؟ هل كان يدرك رسالته؟ الرب سينيره، ويكشف له تدبيره. سيستخدم حتى ضعفه كي يحقّق مشروعه الخلاصي. فالرب هو وحده القادر أن يكتب على سطور حياتنا المعوجة كلمات ذات معنى. وهو وحده القادر أن يقيم من عمق الخطيئة نفساً تمجّده وتعلن قيامته.
نزل شمشون إلى أرض تِمنة، ووجد امرأة أعجبته، ولم تكن يهودية. فكيف لرجل يهودي أن يصنع هذا؟ وكم بالأحرى، كيف يجوز لرجلٍ نذيرٍ للرب أن يتزوج إمرأة غريبة. إنه أمرٌ محروم. هكذا تقول الشريعة: "لا تأخذوا بناتِهم لبنيكم" ( خروج 34 :16). يُذكِّر الوالدان شمشون بهذه الوصية. ولكنه يجيب بصورة قاطعة: "بل إِيَّاها تَأخُذُ لي، لأَنَّها حَسُنَت في عَينَيَّ".
فالزوجة هي مُعينٌ للرجل. تساعده كي يتمّم مشيئة الله. لذلك، من المهم أن تكون الزوجة من نفس إيمان وعقيدة الرجل، لتقوم بهذه الرسالة الهامة. فهي ستصبح جسدا من جسده، ويصير الاثنان واحدا. فكيف يكونان واحدا، وكل منهما له قلب يميل إلى إيمان مختلف. هل سيتمزق الجسد، أم سينعدم الإيمان؟
لم يقبل شمشون المناقشة، فيجيب: "حَسُنَت في عيني". وهنا يتكرّر ما جاء في سفر التكوين عن حوّاء، بعدما تحدّثت مع الشيطان. نظرت إلى الشجرة المُحرّمة، فوجدتها حسنة المنظر، فحسُنت في عينيها. أوصى الرب أن يأكل الإنسان من كل الشجر، إلا تلك الشجرة. وللأسف، تلك الشجرة بالذات هي التي حسُنت في عيني الإنسان.
وعن اختيار تلك الغريبة، يقول الكتاب المقدّس: "وكان هذا من قِبل الرب". أى أن ما حدث لشمشون من اختيار زوجة غريبة، دخل في تدبير الله. وبمعنى أوضح، أن الرب سمح به، ومن خلاله يستمر الله في عمله الخلاصي للبشر. فأحداث شمشون كانت فرصةً ليتقرّب من أعداء شعبه ويتخلص منهم.
وفى كتاب هوشع النبي، يطلب الرب من هوشع أن يتزوج امرأة غريبة وزانية (هوشع 1 :2). وامتثل هوشع لأمر الرب. فيسجّل كتابه المُلهَم صفحات نورانية عن محبة الله للبشر ….
وفي آخر الزمان، جاء المسيح المخلّص. وكان غريبا عنا، ليس فقط من جهة المكان، ولكن أيضا من حيث طبيعتنا نفسها. أراد الاتحاد بنا، أخذنا كعروس له، ونحن الغرباء عنه، وغير المماثلين له، ولا نستحق ان يدخل تحت سقف بيتنا، فأسكننا هو في بيته. فالمسيح هو العريس الحقيقي. نظر إلينا، وإن كنا غرباء وخطأة، وفي محبته اللامتناهية حَسُنَّا في عينيه.
وبرجوعنا الى شمشون، نجد والديه انصاعا إلى رغبته، وقرّرا أن ينزلا معه: "فنَزَلَ، شِمْشونُ وأَبوه وأُمُّه إِلى تِمنَة" (قضاة 14: 5). نعم يوافق الوالدان ويرافقان الابن، وينزلان معه.
يستخدم هذا النص فعل "نزل". وهى كلمة قد تكون عادية، تشير الى النزول من مكان إلى غيره، ومن بلدة إلى أخرى. ولكنْ في سياق سيرة يوسف مثلا، نجدها توحي أيضا بأن نزوله إلى أرض مصر، كان حسب تدبير الرب. فيمرّ يوسف بصعوبات وتجارب كثيرة. وبعدها هو الذي يُنقذ ويُشبع عائلته وكل شعب العبرانيين … ونجد القدّيس لوقا يستخدم هذا الفعل نفسه، عندما يروى مثل السامري الصالح الذي أعطاه يسوع في تعليمه: "كان رجلٌ نازلاً من أورشليم على أريحا" (لوقا 10 :30). ووجده رجلٌ سامريٌ مسافرٌ على هذا الطريق بين حيِّ وميّت، فأشفق عليه وداواه وأخذه إلى فندق، ولم يبخل بشيء ليصير سالِما … فكم بالأحرى نزول الحبيب كي يحمل حبيبته إلى العرش السمائي. نزل المسيح كي يصعدنا معه.
عندما نزل شمشون ووالداه إلى تِمنة، سبقهما شمشون، وإذا به يلتقى بأسد صغير يزأر في وجهه. وهنا ينزل روح الرب على شمشون، فينقضّ على الأسد ويمزّقه. واجه الأسد شمشون، ولكنّ روح الرب كانت على نذيره، فتمكّن من أن يهزم العدوّ المخيف. اختبر شمشون قوة روح الرب، واختبر انتصاره على إبليس، على العدو الحقيقي … يستخدم القدّيس بطرس الأسدَ صورةً لإبليس: "إِنَّ إِبليسَ خِصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يجولُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه" (1 بطرس 5: 8) … ولكنّ إبليس ينهزم ولا يموت. سوف يعود مرة أخرى ليواجه شمشون. أدرك إبليس أن شمشون قوي، ولا يمكن مواجهته وجها لوجه. سيعود العدوّ بطريقة ناعمة، وأكثر ذكاء. من الآن سيخترق حياته وسرّه من حيث هو ضعيف.
هذه واحدة من حِيل إبليس المُجَرِّب، إلى درجة أنه تجرّأ وحاول استخدامها مع السيد المسيح. نزل يسوع الى البرية، حيث صام أربعين يوما، بعدها جاء إبليس يجرّبه، وانتصر يسوع على كل تجارب إبليس. ويقول القدّيس لوقا: "فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت" (لوقا 4: 13). نعم، انتصر المسيح على إبليس. إلا انه سيعود مرة أخرى، ويسوع في أشدّ الضيقة، على الصليب: "إن كنتَ ابنَ الله، خلّص نفسَك وانزل عن الصليب" (متى 27: 40) … ولكن المسيح هنا لا يردّ، فينتصر من جديد، والى الأبد.
ما أصعبها تجربة نمرّ بها! عندما يأتي إبل يس بصوت خفي ورقيق، يتصنّع الشفقة والحنان علينا، يوهمنا أنه يحسّ بآلامنا، وهو مستعد أن ينقذنا منها. ها هو يُوَسْوِس في أعماقي: تخلَّى عن مشيئة الله، تعال إليَّ، لماذا تتألم؟ خلّص نفسك، امنح السعادة لنفسك، تحرّر من القيود الموضوعة على كاهلك.
إن حياتنا المسيحية هي صراع مستمر. ومن المهم أن ندرك هذه الحقيقة: متى انتصرنا مرة على الخطيئة بنعمة الله، ما صِرنا مُحصَّنين. فالخلاص لا يتحقّق في لحظة، الخلاص مسيرة مستمرة. فطريق الإيمان لا ينتهي الا بنهاية حياتنا الأرضية.
هل سيفهم شمشون هذه الحقيقة، ام سينخدع من قوته وسيعتقد انه محصّن؟