بعد عدة أيام يرجع شمشون، ويجد أن جوف الأسد الذي قتله ممتلئ بالعسل. فما هذا؟
الأسد يرمز للقوّة، وفي الكتاب المقدس يرمز كثيرا إلى قوّة العدو، قوّة الشر، وقوّة الموت (مز 7: 2، 17: 12)، بل ويرمز أيضا إلى إبليس في دهائه لافتراس ضحيّته (1 بط 5: 8).
واشعياء النبي يقول، في زمن التجديد، بمجيء المسيح: “الأسد والعجل سيأكلان العشبَ سويا” ( 65: 25). نعم، مجيء المسيح وحضور سرّه الفصحي، سرّ موته وقيامته، سينزع سلطان هذا الأسد، هذا الشرّ، فيقلع شوكة الموت. سيبقى الموت، ويظلّ الشرّ في عالمنا الحالي، لكنه فقد سلطانه أن تكون له الكلمة الأخيرة. الربُ قادرٌ أن يُخرج للبشرِ حتى من الشرّ خيراً، عسلاً. وهذا سرّ عظيم، وإن كان في أوقات كثيرة يثير مشكلة. وفي الوقت نفسه نؤمن ونثق أن الرب قادر أن يُخرِج من الصليب قيامةً، ومن شر الموت وسلطانه خيراً.
وسفر الرؤيا يرمز أيضا للشرّ بالبحر:”ورأيتُ سماءً جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا، وللبحر لم يبقَ وجود” (رؤيا 21 : 1). كثيراً ما استوقفتني هذه الآية، فهي تصف الواقع الأبدي، الذي سيكون عليه الكون بعد قيامة الأموات والمجيء الثاني للمسيح. سيكون هناك سماءٌ جديدة وأرض جديدة، ولكنّ “للبحر لم يبق وجود”. فالبحر يرمز إلى الشرّ، وإلى كل ما يرتبط به: الآلام والعذابات، وكل النقائص والمضايقات. هذا هو البحر الذي سيُلقى في أتون النار في آخر الأزمنة (رؤيا 20: 15).
فالبحر بطبيعته لا يمكن أن نغيّر اتجاهه وتقلّباته، ولا نستطيع أن نؤسس عليه شيئا يبقى ويدوم. فهو دائماً يتغير ويتحول، على عكس الأرض الثابتة. البحر غير مضمون، غير مستقر، يصعب توقع أحواله. فهو يرمز لعدم الضمان، ولخوف الإنسان من المستقبل، من الأمراض، من الوحدة، وبالأخص من الموت. وهو علامةٌ للصراع اليومي، وعلى الإنسان أن يواجهه كلّ يوم. وفى هذا يشبه البحرُ الأسد، بقدرته ومناوراته، فلا يستطيع الإنسان عادةً ان يُلجمه أو يحدّه أو يسيطر عليه.
يذكر سفر الخروج (14: 15 وما يليه) أن شعب العهد القديم وجد نفسه مرّةً مُحاصرا: البحرُ في الأمام وفرعون وجنوده في الخلف، موت من الأمام: البحر، وموت من الخلف: فرعون. وإذا الرب يفتح البحر فيعبر شعبه، وعندما يشرع فرعون وجنوده في العبور يرتدّ البحر عليهم ويغرقهم. هنا أيضا البحر علامةٌ للموت، الموت الذي يواجه الإنسان كل يوم وبكل الطرق، الموت الجسدي، بل وأيضا موت الأمل، موت الكيان، عندما يشعر الإنسان أن حياته أصبحت محاطةً من كل ناحية بانعدام المعنى. عندما يصاب الإنسان بشيءٌ، قد يسأل نفسه: لماذا أحيا، ولمن أحيا؟. هذا هو الموت، هذا هو البحر، هذا هو أسد شمشون.
وهنا يبشّرنا سفر الرؤيا أنه في الخليقة الجديدة، في السماء، هذا البحر لن يكون له وجود. نعم، لن يكون هناك بحرٌ، أو شرّ، أو ألم، أو موت، أو أسد: “وللبحر لم يبقَ وجود” (21 :1). سيكون الإنسان في السعادة الوحيدة، في شركة وحب الله والقديسين. فهذه البشارة تبعث فينا الرجاء الأكيد، فنثق ولا نشكّ أبدا.
لكنّ البحر والأسد موجودان الآن، فماذا نفعل؟ نسترشد بما حدث لبطرس (متى 14: 22- 32)، ليقدّم لنا الإجابة. طلب يسوع من تلاميذه أن يسبقوه بالقارب إلى الشاطئ المقابل. وصعد يسوع ليصلّى فى العُزلة. أما القارب فابتعد كثيرا عن الشاطىء، وبدأت الأمواج تلطمه، والبحر يعلو عليه. يقوم البحر، مثل الأسد، بما رأيناه سابقا ، يهيج، يعلو ويعلو … وقبل الفجر جاء يسوع إلى تلاميذه ماشياً على البحر، فارتعبوا لأنهم ظنّوه شبحاً. فقال لهم المسيح في الحال: أنا هو، لا تخافوا. فيقول له بطرس: إذا كنت أنت هو، فمُرني أن أجيء إليك على الماء. فأجابه يسوع: تعالَ. وبالفعل، نزل بطرس من القارب، ومشى على الماء نحو يسوع. ولكنه خاف عندما رأى الريح شديدة، فأخذ يغرق، واستنجد بيسوع. وفى الحال مدّ يسوع يده وأمسكه.
هذا الحدث ليس فقط معجزةً لنتأمل قدرة المسيح وإيمان بطرس وضعفه. إنه مثال لأحداث حياتنا الحالية التي نعيشها في العالم، عالم مليء بالمياه، والبحار، والأسود، وبكل ما تتضمّنه … وكلّنا إيمان وثقة أن المسيحي يستطيع أن يعبرها، أن يسير عليها، أن يتسلط علّيها، بمقدار ما يركّز نظره على الله: على المسيح. هكذا صنع شمشون، لأن قدرة الرب كانت عليه. فالمياه لا تنتهي، لكنها لا تتسلّط علينا. الشر يسبّب لنا الآلام والأوجاع والأحزان، لكنه لا يقدر أن يحطّمنا. بل نختبر أن الرب يُخرج من الميِّت عسلا، مثلما وجده شمشون في جوف الأسد. فأخذ شمشون وأكل من العسل، وأعطى والديه وأكلا منه … نعم، انتصر شمشون على هذا الأسد، وأخذ من العسل الذي وجده فأشبعه، ومنه أطعم الآخرين … هكذا يمكننا، بقدرة الرب، أن نعبر مياه الشرّ وآلامه، لنتذوّق من خلاله العسل الحقيقي: القيامة.
ولكن يبقى السؤال: هل سيظل شمشون يؤمن بعمل الله فيه، فيواجه الأسد بقدرة الرب كي يأكل العسل؟ أم سيفضّل الراحة والاستسلام؟