شمشون بين طفل وطاحونة (6)

جذور الخطيئة

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ماذا سيقدم شمشون للرب بعد عشرين عاما كقاضٍ على شعبه؟ “ثُمٍّ انطَلَقَ شِمْشونُ إِلى غَزَّة، فرأَى هُناكَ امرَأَة زانِيَة، فدَخَلَ علَيها” (قضاة 16 :1).

 ما هذا؟ ماذا فعلت يا شمشون؟ بعد عشرين عاما كقاضٍ على إسرائيل، بعد هذا السن، بعد هذه الخبرة العميقة والقوية مع الله. في لحظة تقرر أن تنطلق إلى غزة، وعندما ترى امرأة زانية،تزني معها؟ هل هي شهوة عابرة، أم شيء أعمق؟ الزنا هو ثمرة شجرة نمت وترعرعت لسنين طويلة، فهو نتيجة. فما هى جذور هذه الخطيئة؟

شمشون مكرس للرب. والتكريس في العهد القديم لا يعني فقط الأخلاق الحميدة للشخص، أو التقوى أو العبادة. أصل الكلمة العبرية يعني: المُخَصَّص. المكرّس هو مخصّص للرب. لذا فهو مختلف عن الآخرين. وهذا مهم: أن يقبل المكرّس أنه شخص مختلف عن الآخرين. لا نتحدّث عن أفضلية او أهمية، ولكن عن اختلاف من أجل رسالة. ماذا يعني هذا؟

هناك شاب يدعوه المسيح (لوقا 9)، ويقول له:واتبعني. فيرد الشاب: اتركني أولا أن أذهب وأدفن أبي، وأعود وأتبعك. فيقول له المسيح، اترك الموتى يدفنون موتاهم، وأنت تعالَ واتبعني.

هذا رد غريب. فأين إكرام الوالدين؟ أين واجب الدفن المقدس؟ وكيف لميت أن يقوم ويدفن ميتا آخر؟

في الثقافة اليهودية، عندما يموت شخص، يتم دفنه بسرعة، في نفس اليوم، أو اليوم التالي على حد أقصى، حتى لا تتعفّن الجثّة. وبعد ذلك يصير تقسيم الميراثومع مراعاة أهل البيت الأكثر احتياجا: البنات، الأطفال،….وكان هذا دور الابن الأكبر ويأخذ وقتا. وعند إتمام هذه المهمة المقدسة لضمان حياة الأكثر ضعفا بعد موت الأب، كان يُقال: الآن يستطيع أبي أن يرتاح في قبره. قد دُفن.

هذا هو الدفن الحقيقي، فبهذا سيستريح الأب بعد موته. وكأن الميت لم يمت، ماتت فقط قدراته على الفعل، أما قدرته على الألم والقلق على من تركهم لن تنتهي بالموت. فهو قلق حتى في قبره،  وينتظر أن يستقر حال الجميع، ووقتها يستطيع أن ينام إلى لأبد في راحة، يستطيع أنويُدفن.

يقول المسيح للشاب: الدفن، سيقوم به آخرون، ليس دورك من بعد. أنا أدعوك. أنت تعالَ. هناك شيء آخر معد لك: وهو إعلان ملكوت الله.

هذا هو التكريس أن نقبل أننا دُعينا من أجل شيء مختلف. مختلف عن عقلية هذا العالم.… فهل سئم شمشون هذا الاختلاف؟ هل أراد أن يكون مثل رجال وقته؟

ففي وقت الضيق والتعب، كان من المعتاد ان ينزل الرجال الى غزة. هل أراد ان يكون مثلهم؟ هل خلع ثياب تكريسه كي يتحرر بعض الوقت؟ ويصبح واحدا معروف، فيجوز له أن يفعل ما يريد، كما يفعل الجميع؟ هل هذا هو أصل خطيئته؟

أنا لا اعلم، لكني أعلم أن غزة كانت وقتها محرَّمة على اليهود. فهي ميناء وبعيد عن اليهودية، ومعروفة بالتجارة والمتع وكثرة الترفيه. بلد التسلية العابرة، فلا أحد يعرف أحدا. وهناك اختار شمشون أن ينزل، لماذا؟ هل قرّر أن يخطئ؟ لا أعلم. أعلم أنه عندما ذهب، وترك المكان الذي كان ينبغى عليه أن يكون،  أخطأ.  نعم، مختار الرب، كل مسيحي، مع الوقت يتعلم أن يهرب من المكان الخاطئ، ومن العلاقات الخاطئة، فلا يكابر.

هناك شخص آخر، لم يكن في مكانه الصحيح، اختار المكان الخاطئ كي يتواجد فيه: داود النبي. في حين كان شعبه وجنوده في الحرب، وكان عليه أن يكون معهم، قرر أن يبقى في بيته، في الراحة. ويستيقظ داود متأخرا في ذلك اليوم، ويتنزّه على سطح البيت. وهناك يرى امرأة فيرغبها ويزني بها (2 صموئيل 11). نفس جذور الخطيئة: عدم التواجد في المكان المناسب.

ولكن أين هو المكان المناسب للمسيحي؟

عندما يطلب شخص أن يتبع المسيح، يجيبه: “لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ” (متى 8:20). لكن يوحنا يقول إن المسيح أسند رأسه على الصليب (يوحنا 19: 30). نعم، هذا هو المكان الذي ارتاح فيه المسيح. على الصليب.

الإنسان قد يجد نفسه في المكان الخاطئ، أو في علاقات خاطئة، لأنه يهرب من المكان الصحيح: الصليب. لأنه يعتقد أنه موت، وهو حقا كذلك. لكنه ليس فقط موتا.

 الصليب هو موت وقيامة. هذا هو المكان الصحيح. لا يُجدي أن نسأل عن الأماكن الخاطئة، التيلايجب أن لا نتواجد فيها. لكن ما يهمّ أن ندرك أين يجب أن نكون الآن.

كثيرا ما ننفصل عن حياتنا الجماعية، عن كنيستنا، وعن بيوتنا، لأننا هناك نتألم لأن الآخر أصبح “صليبا لي”: مصدر ألم. وماذا يحدث؟ نعتقد أننا نتفادى ألما أو ضيقا، فنجد أنفسنا في المكان الخاطئ. قد يكون أقل ألما، لكنه حتما أكثر ضررا. 

هل هذا هو سبب خطيئة شمشون: أنه اختار المكان الخاطئ، وقررّ أن يكون مثل غيره؟ هل رفض أن يكون مختلفا بتكريسه؟ هل قال: لماذا لا يحقّ لي أن أذهب إلى غزة؟ أنا قادر أن أحمي نفسي. أنا قادر أن أتملك ذاتي، لن أتمادى، سأتوقف في الوقت المناسب. يالها من خدعة، يالها من فكرة شيطانية يزرعها فينا إبليس: أناليسلست طفلا، كي يقال لي ماذا يجب أن أفعل. أنا أعرف. هل كان هذا فكر شمشون؟

فذهب … وهنا رفع الرب يده من على رأسه، نزع الحجر الذي كان يسنده على قمة سفح الجبل. فعندما رأى شمشون تلك المرأة، يبدأ الحجر في الانزلاق، تبدأ الرغبة تسيطر عليه، ومن له أن يوقفها؟ من يستطيع أن يوقف فيضان النهر، كيف نحتويه أو نمنعه بسد صغير؟ سيقتلعه النهر ويستمر في الفيضان. وفي النهاية زنى شمشون مع المرأة. وصل الى عمق الهاوية.

هل هذا هو فعلا جذور خطيئة شمشون؟ أو قد يكون شيئا آخر؟

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الأب د. هاني باخوم

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير