عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – قداس افتتاح سنة الحياة المكرّسة – بكركي، السبت 6 كانون الأوّل 2014

“ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك” (مر 10: 28)

Share this Entry

قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات

الرؤساء والرئيسات الأعلين

الرهبان والراهبات الأحباء.

1. يسعدنا أن نفتتح معكم بهذه الليتورجيا الإلهية، سنة الحياة المكرّسة التي افتتحها قداسة البابا فرنسيس في روما الأحد الماضي 30 تشرين الثاني. ونقول للربّ يسوع، بصيغة وعدٍ متجدِّد، كلمةَ بطرس الرسول: “ها نحنُ قد تركنا كلّ شيء وتبعناك” (مر10: 28). هي كلمة تندرج في سياق جواب الربّ يسوع لذاك الشّاب الذي جاء يسأله بلهفة: “أيّها المعلّم الصالح، ماذا أعمل من الصلاح لأرث الحياة الأبدية”؟ فكان الجواب: “إحفظ الوصايا. وإذا شئتَ أن تكون كاملاً، إذهبْ وبعْ ما هو لك وأعطه للفقراء، فيكون لكَ كنزٌ في السماء. ثم تعال اتبعني” (متى 19: 16-21).

2. سنةُ الحياة المكرّسة هذه، أرادها قداسة البابا بمناسبة مرور خمسين سنة على صدور وثيقة المجمع المسكوني الفاتيكاني “المحبة الكاملة” حول تجدّد الحياة الرهبانية. وأراد أن ترتكز تلبيةُ الدعوة إلى الحياة المكرّسة على ثلاثة: الفرح في اتِّباع المسيح وعيش إنجيله،والشجاعة في وضع الثقة الكاملة به في الخدمة، على مثال المؤسِّسين والمؤسِّسات، والشركة الشخصية مع الله من أجل بناء أخوّة شاملة بالمحبة المتبادلة.

هذه الثلاثة هي بمثابة الدينامية المحرِّكة لقرارنا الأساسي: “قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك” (مر10: 28). هذا ليس قراراً جامداً، بل هو مسيرة متواصلة: اتّباع دائم للمسيح مع التخلّي الدائم عن الذات وعن كلّ شيء. لا يحقّ لنا أن نجعل اتّباعَنا للمسيح، الذي هو السَّيرُ على خطى محبته، مجرّدَ انتماء قانوني إلى جمعية أو رهبانية. مَنْ يكون انتماؤه قانونيّاً فقط، لا يستطيع التخلّي عن أي شيء. أن تكون الحياة المكرّسة سعياً إلى كمال المحبة، هذا لا يعني مجرّدَ تحديد روحي لفظي، بل يعني التزاماً بالسَّير على خطى المسيح والتخلّي عن الذات وعن كلّ شيء، والسعي إلى عيش المحبة من دون شروط أو حدود.

4. بالعودة إلى ذاك الشَّاب الذي “مضى حزيناً عندما سمع جواب يسوع، لأنّه كان ذا مال كثير” (متى 19: 22)، فإنّه يبدو لنا مخلصاً مع نفسه، لكونه لا يستطيع التخلّي عمّا يملك. فلم يشأ خيانة الأمانة للسَّير وراء يسوع متخلِّياً، ثمّ يرجع ويستعيد البدل عمّا تخلّى عنه. فلنطرح السؤال حول أمانتنا، نحن الذين لبّينا الدعوة وسرنا وراء يسوع وتخلّينا عمّا كان عندنا، ثمّ وجدنا فيض الخير في الجمعية والرهبانية: المال، العلم، الإمكانيات، المراكز، السلطة، تحقيق الذات. هل نسيرُ حقّاً على خطى يسوع؟ هل نعيش حقّاً فضيلة التخلّي عمّا توجب علينا النذور المقدّسة: الطاعة والعفّة والفقر؟

5. سنة الحياة المكرّسة هي سنة التجدّد في الأمانة المزدوجة للمسيح وللكنيسة، وبالتالي هي عيش مقتضيات الإنجيل، وحبّ الكنيسة والالتزام في حياتها ورسالتها، وتنمية الموهبة الخاصّة بكلّ جمعية أو رهبانية (رجاء جديد للبنان، 53). الأمانة للمسيح الرأس هي أمانة للكنيسة، جسده. إنّ أمانة المكرّسين والمكرّسات المزدوجة تعكس أمام العالم الرباط غير المنفصم بين المسيح وكنيسته (راجع الكنيسة في الشرق الأوسط، 53). وتشكّل الأساس اللاهوتي والراعوي لاندماج الرهبان والراهبات اندماجاً فعليّاً في حياة الكنيسة المحلّية ورسالتها. “ولئِن كانوا ينعمون باستقلالية في مجالات حياتهم داخل مؤسّساتهم، فهم جزءٌ لا يتجزّأ من الكنيسة الخاصة، ولا يمكن أن يعملوا في الحقل الراعوي إلّا بالانسجام والتعاون الوثيق مع الكنيسة المحلية، وفي شركة أوثق مع رعاتها” (رجاء جديد للبنان، 53). كما أن هذه الأمانة المزدوجة تقتضي تجدّداً دائماً بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار، وإحياء روح المؤسِّسين والمؤسِّسات والأهداف الأصلية، والمشاركة الفعلية في حياة الكنيسة ورسالتها ومبادراتها، ليتورجياً وراعوياً ومسكونياً وإرسالياً واجتماعياً، والوقوف على حاجات المجتمع بغيرة رسولية مسؤولة (راجع وثيقة كمال المحبة، 2).

6. هذا التجدّد يحفظ الرهبانيات في نضارتها وقوة شهادتها ومصداقيتها؛ ويُبقيها على طبيعتها الأساسية كعطية ثمينة من الروح القدس، تساند حياة الكنيسة ونشاطها الراعوي، وتشعّ فيها كعلامات نبوية لشركة الاتّحاد بالله والوحدة بين جميع الناس برباط المحبة (راجع الكنيسة في الشرق الأوسط، 52). ومعلومٌ أنّ التجدّد في الحياة الرهبانية بالشكل المتواصل والدائم، يُسهم إسهاماً كبيراً في تجدّد الكنيسة المحلية نفسها (النص المجمعي “الحياة الرهبانية في الكنيسة المارونية، 45). ومعلومٌ أيضاً أن الحياة المكرّسة لن تُثمر  إلّا بمقدار تجذّرها في عمق الحياة الكنسية (راجع المرجع نفسه، 46).

7. لكن تجدد الأمانة للمسيح والكنيسة وللموهبة الخاصّة بكلّ جمعية ورهبانيات، يواجه تحديات تنال من هذه الأمانة، ولا بدّ من مواجهتها.

لقد أنتجت الحداثة قيماً كالحرية والمساواة والعدالة والتواصل والشّفافية وروح النقد وسواها. استفادت الرهبانيات من هذه القيم، وأقامت وزناً للأفراد وفتحت أمامهم مجالات المبادرة والتنمية الذاتية والانخراط في مختلف القطاعات الرسولية والإنمائية والاجتماعية. غير أنّ هذه القيم بالمقابل سهّلت التفرّد
من خلال حرية بدون ضوابط، ومساواةً لا تقيم للسلطة الرهبانيةوالكنسية وزناً لهيبتها ولقراراتها، وانجرافاً في تيار النسبية والنفعية، وصراحةً تتخطّى حدود اللياقة والاحترام، وتشبّثاً في الرأي والقناعات الشخصية، وافتقاراً للانصياع المحبّ وروح الطاعة. فتولّدت من هذا الواقع الجديد أزمتان: أزمة هوية بالنسبة إلى الحياة الرهبانية، وأزمة مصداقية بالنسبة إلى الآخرين (الحياة الرهبانية في الكنيسة المارونية، 47). نأمل أن تكون سنةُ الحياة المكرّسة مناسبةً لمواجهة هذا التحدّي.

8. تواجهُ الحياة المكرّسة تحدّياً آخر ينال من حرارة الحياة الروحية والأمانة للنذور المقدّسة. لقد انصرف الرهبان والراهبات إلى نشاطات رسولية محمودة ومشكورة بحدّ ذاتها، وضرورية لرسالة الكنيسة وحاجات المجتمع: إدارات ومدارس وجامعات ومعاهد ومراكز اجتماعية وإنمائية، ونشاطات ثقافية. فكانت البحبوحة المالية، وإغراءات السلطة، والسيارات الخاصّة، والأجور لقاء العمل، والأسفار الحرّة لكلّ طارئ وحاجة. هذه أثّرت في العمق على الحياة الروحية والصلاة والتأمّل والحياة الجماعية الديريّة، وعلى شهادة الحياة. إنّه تحدٍّ كبير وخطير، ويستوجب معالجة روحية ومسؤولة، بحيث تستعيد الجمعيات والرهبانيات طبيعتها كثروة كبيرة وينبوع نعمة وحيوية في الأبرشيات” (رجاء جديد للبنان، 54)، ويكون الرهبان والراهبات، “بنمط حياتهم وأمانتهم لنذورهم، هداةً روحيّين حقيقيّين يلجأ الشعب إليهم” (المرجع نفسه، 52)، في الأديار، وفي مؤسساتهم التربوية والاستشفائية والاجتماعية، الشاهدة لمحبة المسيح، والضامنة حضوره الخلاصي الفاعل.

9. “ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك” (مر10: 28). هذا هو وعدنا المشترك في سنة الحياة المكرّسة. إنّ الذين اتّبعوا يسوع، أثناء حياته التاريخية، أقاموا معه، سمعوا كلامه، تقدّسوا بحضوره، اقتدوا بمحبته، تمرّسوا على الصوم والصلاة، اكتسبوا وداعة وحكمة. ثمّ أرسلهم لكي يعلنوا إنجيله للخليقة كلّها.

فلا بدّ من الإقامة مع المسيح من خلال تنشئة روحية ورهبانية وكنسية، أصيلة ومستدامة، تجعلنا ننطلق دائماً من المسيح، كما أوصى القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني. إنّ مستقبل الحياة المكرّسة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة الدينامية التي تبذلها الجمعيات والرهبانيات لتنشئة أعضائها. ولا بدّ من تمييز الدعوات ومرافقتها والسهر عليها، بحيث لا يغلب الهمّ العددي على الالتزام الصادق والشاهد قولاً وحياة.

10. أمّا جواب يسوع لبطرس: “ما من أحد ترك أولاداً أو حقولاً، من أجلي ومن أجل إنجيلي، إلّا ويأخذ عوض الواحد مئة” (مر10: 29)، فيذكّرنا أنّ الأشخاص الذين وجدناهم في مؤسساتنا هم إخوة وأخوات وآباء وأمّهات وأبناء وبنات روحيّين. وعلى هذا الأساس نعيش معهم بروابط المحبة والحنان والاحترام والتعاون والوحدة والخدمة والغفران المتبادل والفرح العائلي. ويذكّرنا أيضاً أنّ ما نجد من ممتلكات وأموال منقولة وثابتة، إنّما هي من أجله ومن أجل إنجيله أي للعمل الروحي والرسولي والراعوي والاجتماعي. ويدعونا لحماية الأرض واستثمارها في مختلف قطاعاتها من أجل تلبية الحاجات المعيشية والرسولية والكنسية، ومن أجل خدمة الفقراء وتنمية الإنسان والمجتمع، والمحافظة على الوجود المسيحي الفاعل والشاهد.

11. بهذه الروح وبهذه المقاصد نبدأ معكم مسيرة سنة الحياة المكرّسة، منطلقين من المسيح الربّ الذي لبّينا دعوته وتبعناه، على هدي أنوار الروح القدس الذي يذكي شعلة المحبة في قلوبنا. ونلتمس شفاعة أمّنا مريم العذراء مثالنا في الإصغاء لكلام الله، وفي تكريس ذاتها نفساً وجسداً لخدمة عمل الفداء وتحقيق تصميم الله الخلاصي. ومعاً نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

***

(المصدر: موقع البطريركية المارونية)

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير