عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – بكركي، الأحد 7 كانون الأوّل 2014

“إســـــــمــه يـــوحـنّــــا” (لو 1: 63)

Share this Entry

1. تحيي الكنيسةُ اليوم، في مسيرتها نحو الميلاد، ذكرى مولد يوحنا ابن زكريا وإليصابات. أُعطي اسمُ “يوحنا” الذي سبق وأوحاه الملاكُ لأبيه، بسبب مفهوم الاسم ورسالة المولود. “يوحنا” بالعبرية “يهو حنان” يعني “أللهُ رحوم”. فكان يوحنا رحمةً إلهية لزكريا وإليصابات المتقدّمَين في السّن والعاقرَين، وكان رسولَ رحمةِ إلله للشعب كلّه، لأنّه حَمَلَ رسالةَ إعدادِ القلوب والعقول والضمائرِ للمسيح الربّ، فدُعي “السابق”، وجسّدَ هذه الرسالة بممارسةِ معموديةِ الماءِ للتوبة والمناداة بها وبتغييرِ مجرى الحياة، فدُعي “المعمدان“.

2. يسعدنا أن نحتفلَ معاً في هذه الليتورجيّا الإلهيّة. إنّنا نرحّب بكم جميعًا ونُحيّي أوّلاً أسرةَ تلفزيون TV Charity، إدارةً ومعاونين وعاملين وأصدقاء، التي تشارك معنا وتُحيي خدمةَ هذا القداس، بمناسبة عيدها الخامس. ونوجّه تحيّةً خاصّة إلى قدس الأب مالك بو طانوس، الرئيسِ العام لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، وإلى الأب جان أبو خليفه مدير TV Charity والآباءِ المرسلين اللّبنانيين الموارنة المعاونين والحاضرين. إنّنا نُهنّئ الجمعية بإنشاء هذا التلفزيون، بعد انشاء اذاعة صوت المحبة، والإدارةَ على حسن تطويره واتّساعِ رقعة مشاهدته في لبنان وبلدانِ الانتشار. وقد حُدِّدَ له ثلاثةُ أهداف:

الأوّل، مخاطبةُ الشباب والأطفال بلغتهم صوتًا وصورة ووسائل اتّصال.

الثاني، إبرازُ قضايا المنسيّين والفقراء من أجل إحياء روحِ التضامن معهم.

الثالث، تغطيةُ نشاطات الكنيسة والتعريفُ بغنى تراثاتها المتنوّعة، الليتورجيّة منها والروحيّة واللاهوتيّة والتاريخيّة.

نسأل الله أن يبارك هذه الوسيلة الإعلامية الكنسيّة ومثيلاتِها، التي تقوم برسالةٍ إنجيلية عظيمة ذاتِ الثمار الروحيّة الوافرة.

وفي إطار الشركة الروحية مع أمواتنا الأحبّاء، نُحيّي بيننا عائلة المرحومة صباح وأنسباءَها، هي التي زرعت الفرح في قلوب جميع الناس، في لبنان والخارج. كما نُحيّي عاتلتي نسيبنا المرحوم ميشال شكرالله الجميّل – عين الخروبة، والمرحومة فريدة يوسف الخوري – حدشيت، فنجدّد لهم التعازي القلبية، ونصلّي ملتمسين لهم من الله السعادةَ في الملكوت السماوي.

ونُحيّي أيضًا مرحّبين بالوفد الروسي ممثّل الجمعية الأمبراطورية الروسيّة للأراضي المقدّسة بمناسبة مرور سبعين سنة على العلاقات الروسية – اللبنانية، ومعهم السيد نقولا التويني رئيسِ تجمّعِ العائلات البيروتيّة المعنيّ بالخدمة الإنسانية – الاجتماعية. ونرحّب بسعادة الممثّل الماروني في البرلمان القبرصي السيد Antonis Hadjiroussos وزوجتِه السيدة Carmella.

3. “إسمه يوحنا” (لو1: 63). يوحنا علامةٌ لرحمة الله. هكذا رأى الشعبُ مولدَ يوحنا. فيكتب لوقا الإنجيلي: “سمع جيرانُ إليصابات وأقاربُها أن الربَّ قد عظّم رحمتَه لها، ففرحوا معها” (لو1: 58). رحمةُ الله العظيمة هي إنعامُه عليها، وهي عاقرٌ عجوز، بابنٍ، سيقول عنه الربُّ يسوع أنّه “أعظمُ من نبيّ” وأنّه “لم يُولد في مواليد النساء مثلُه” (متى 11:11). وظهرت علامةُ رحمة الله لزكريا “فلمّا كتب على لوح: اسمُه يوحنا، انفتح للحال فمُه، وانطلق لسانُه، وجعل يتكلّم ويبارك الله” (لو1: 63-64). وقرأ ، بقراءةٍ نبوية، عملَ رحمةِ الله الذي بدأ مع مولد يوحنا، ويشمل الشعبَ كلَّه. فخاطب المولودَ الجديد هكذا: “وأنت أيّها الصبي، نبيَّ العلي تُدعى، لأنّك تسيرُ أمام وجه الربّ لتُعدَّ طرقه، وتعلّمَ شعبه الخلاص بمغفرة خطاياهم، في أحشاء رحمة إلهنا، التي بها افتقدنا المُشرقُ من العلاء، ليضيءَ على الجالسين في ظلمة الموت وظلاله، ويهديَ خُطانا إلى طريق السلام” (لو1: 76-79).

4. خَدَمَ يوحنا رحمةَ الله بمساهمته في تحقيق عمل الله الخلاصيّ، إذ راح يهيّئ طريق المسيح المخلّص إلى العقول والضمائر والقلوب، داعيًا إلى التوبة بالإقلاع عن الشر، وتبديلِ نمط الحياة. من واجب كلّ واحد وواحدة منّا: أن يقول الحقيقة لإنارة العقول والضمائر، وأن يتجنّب الكذبَ والتجنّيَ على الغير، حفاظًا على كرامة الذات وكرامة الآخرين. ما يؤلمنا اليوم هو أن يبيعَ البعضُ نفوسَهم وكرامتَهم، ويمتهنون لغة الكذب والتجنّي بواسطة التقنيات الإعلامية لقاء حَفنة من المال، يشتري بها ضمائرَهم مموّلون، لأهدافٍ سياسية أو عدائية أو هدّامة. فما أجمل الحقيقةَ الموضوعيّة. إنّها شرفُ الأحرار.

5. عندما قَبِل سامعو يوحنا دعوته إلى التوبة، اتّعظوا وقرّروا تغييرَ سلوكهم. فسألوه: “ماذا علينا أن نفعل؟ فدعاهم إلى تقاسم خيرات الأرض: “مَنْ له ثوبان فليعطِ من ليس له. ومن له طعام فليفعلْ كذلك”. ودعاهم إلى عدم سرقة المال العام: “من يجبي المال لا يستوفِ أكثر من المطلوب”. ودعاهم إلى العدالة: “لا تظلموا أحدًا، وإلى قول الحقيقة وعدم الافتراء: “لا تفتروا ولا تكذبوا على أحد”، وإلى القناعة: “اقتنعوا بوظائفكم” (راجع لو3: 10-14). اجل إتعظوا وكل واحد منا مدعو لان يتعظ.

أمّا الذين لم يتّعظوا، ولم يخافوا الله خنقوا صوته في ضمائرهم، فصرخ بهم يوحنا: “يا نسل الأفاعي، من دلّكم على الهرب من الغضب الآتي؟ أ
ثمروا ثمرًا يليق بالتوبة” (متى 3: 7). وعاد الربُّ يسوع ليعيد الصرخةَ نفسَها ويضيف: “كيف تقدرون أن تتكلّموا كلامًا صالحًا وأنتم أشرار؟ لأنّ الفم من فيض القلب يتكلّم! الإنسانُ الصالحُ يخرج من كنزه الداخلي الصلاح، والإنسانُ الشرير يخرج الشرور من كنزه الشرير” (متى 12: 34-35). لهذا السبب قُطع رأسُ يوحنا، وصُلبَ يسوع. لكن الحقيقة تنتصر لتحرر كل الناس وتبقى مُعلَنةً باستمرارٍ وبشدّة،والخلاص المسيحاني فاعل وجارٍ أكثر فأكثر في النفوس.

6. إنّ الكنيسة، بشخص رعاتها، تواصل دعوةَ يوحنا إلى التوبة وتغيير المسلك، وصرختَه وصرخةَ المسيح بوجه المتمادين في الشر والكذب والظلم، أكان في المجتمع الصغير أم في الدولة. ولقد أطلقنا الأربعاء الماضي هذه الصرخة مع مطارنة كنيستنا، فندّدنا بكلّ ما يجري في لبنان، على المستوى السياسي، من إمعانٍ في تفريغ مؤسسات الدولة، وفي انتهاك الدستور والمراسيم والقوانين والأعراف، وفي عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وفي سلب المال العام، والتغطية السياسية للفساد والتجاوزات والاستيلاء على أملاك الدولة وللاعتداءات على المواطنين في أرواحهم وممتلكاتهم، ولسائر الجرائم.

لا يمكن التمادي في صمّ الآذان عن صراخ المواطنين في محنهم المعيشيّة والاقتصادية والأمنية، وفي خنق صوت الله في الضمائر الداعي إلى عمل الخير والعدل وتجنّب الشر والظلم.

لذا ندعو للصلاة الجماعية في الرعايا والأديار والمؤسسات من أجل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وإخراجِ البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

7. الرحمة هي حاجة جيلنا وعالمِنا: حاجةُ العسكريّين المخطوفين في جرود عرسال وأماكن أخرى، وحاجةُ أهلهم إلى رحمة الإفراج عنهم ووضع حدٍّ لآلامهم الطويلة؛ حاجةُ المُتنازعين والمتخاصمين إلى الغفران والمصالحة؛ حاجةُ المظلومين والمُهمّشين إلى العدالة والإنصاف؛ حاجةُ الأجيال الطّالعة إلى مكان في وطنهم، وإلى فرَص عمل، وإلى مستقبل آمن وواعد، وإلى مجتمع أفضل.

والفقراء بكلّ أنواع عَوَزهم، المادّي والثّقافي والاجتماعي، يحتاجون بالأكثر إلى رحمةٍ تتجسّد في أفعال المحبّة والمبادرات الإنسانيّة والإنمائيّة، وفقًا لحاجات الجسد والرّوح. اننا نحيي كل الذين واللواتي افرادا وجماعات ومؤسسات يعطفون بالرحمة على فقرائنا في مختلف حاجاتهم، اكان في مؤسساتنا الاجتماعية ام في مدارسنا او جامعاتنا او مستشفياتنا وسواها. إنَّ كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة يُعدّد الحاجات الروحية والجسدية مُستلهمًا إيّاها من الكُتُب المقدّسة.

إنّ تلبية كلّ هذه الحاجات للجسد والرّوح هي فعلُ عدالةٍ وبرٍّ مرضيٍّ لله (التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2447). فلا يكفي الكلامُ والدعوةُ والدعاءُ لسدّ هذه الحاجات، بل يجب الإلتزامُ شخصيًّا وجماعيًّا في أفعال المحبة على أنواعها، عملاً بقول يعقوب الرسول: “إذا لم تُعطوا العريان والجائع حاجات جسده، فأيّ نفعٍ في ذلك. كذلك الإيمان؛ إن لم يقترن بالأعمال، فهو ميتٌ في ذاته” (يع2: 16-17)؛ويقول يوحنا الحبيب: “مَن كانت له خيرات الدنيا، ورأى بأخيه حاجة، فأغلق أحشاءه دون أخيه، فكيفَ تُقيم فيه محبّةُ الله؛ لا تكُن محبتُكم بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ” (1يوحنا3: 17-18).

8. نصلّي إلى الله، بشفاعة يوحنا المعمدان، خادمِ الرحمة الإلهية، أن يغمرَنا جميعًا برحمته وحنانه وغفرانه، وأن يجعلنا خادمي الرحمة والغفران، وصانعي السلام. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير