تزامنا مع اقتراب عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح ، ارتأينا أن نضع بعضا من التأمّلات حول سرّ الميلاد والتجسّد ، وسرّ التدبير الإلهيّ للبشريّة جمعاء ، وحضور الله في التاريخ .
يبدو التجسّد عثرة للكثيرين ! . فهو يقفُ كالحائط الكبير أمامهم . ويبدو كأنه كتلة من التناقضات الصارخة ، التي حين نفكّر فيها ونحصيها ربّنا نقول : دعنا من هذه العقيدة . لكّننا هنا لسنا أبدًا في دراسة فلسفيّة لاهوتيّة لعقيدة التجسّد ، بقدر ما نريد إعطاء تأمّلات هادئة للسرّ كي ندخل في الجوّ الميلاديّ ، وننتظرُ المخلّص العظيم يسوع الناصريّ ، الكلمة الأزليّة .
لا بدّ لنا ، في البداية ، أن لا نكوّن صورة ً مسبقة ً لله وللإنسان ! بمعنى ، نحنُ لا يمكننا أن نقولَ إنّ سرّ التجسّد ، أو سرّ الكلمة الأزليّة مستحيلٌ أن يكونَ " حدثا تاريخيّا " ، بحجّة أنّ طبيعة الله هي كذا وكذا ، وصعبٌ وكفرٌ أن يكون الله طفلا أو جسدًا .... الخ . بل ، ننطلقُ من الله ذاته ، ومن يسوع المسيح ذاته ، لنصل إلى الإنسان وكيف يكون ، وأيضا كيف أنّ الكلمة الخلاّقة هي التي تعطي للتاريخ معنى ومسحة روحيّة شفّافة .
عندما نقول إنّ الله العظيم الكبير محالٌ أن يحصر نفسه في كتلة من اللحم " الجنين " ، ثمّ في طفل ، ثمّ في بالغ ، يكونُ مفهومنا عن كبر الله وعظمته مفهومًا ماديّا . يا تُرى ، هل تقاس عظمة الله وكبره بالمتر ؟! ما معنى قولنا أنّ الله كبيرٌ ؟ هل نقصدُ أنّ نقيس الله بالمسطرة أو بالميزان ، أو بالمقاييس الطوليّة لنعرف أبعاده ؟ هل أعني بهذا القول أنّ حجم الله أكبر من المنضدة أو من هذا المبنى ، أو حتّى من الكون كلّه ؟ كلّا ، فكُبر الله يفوق عالمنا الماديّ ، وهو يتفوّق على كلّ ما نسمّيه كبيرًا ، لكنه ليس أكبر حجمًا ، فالعظمة ليست في الحجم والطول . فهناك أناسٌ أحجامهم ثقيلة جدّا ، وطول قامتهم كبيرة ؛ لكنّ لا ذكاءَ ولا عقلَ يُرتجى منه شيء !! وهناك أناسٌ بسطاء جدّا جدّا ، غيّروا العالم وقلبوه : ويسوع واحدٌ منهم ، لإنه الأوّل المطلق الذي بدّل وجه العالم ، ولم يكن قويّا بعضلاته أو بوزنه أو بطول قامته ، بل بــ "حبّه وتواضعه ورحمته وغفرانه " . الحبّ ، التواضع ، الرحمة ، الغفران والمصالحة . هذه هي الأمور المهمة التي لا بدّ لنا من التأمّل بها ، فهي تنبع من سرّ الميلاد والتجسّد .. سرّ الحبّ والرحمة والحنان والتواضع والتخلّي .
يتبع