يتلخّص سرّ التجسّد بكلمة ٍ واحدة ، يمكن اختصارها وصفها بـــ ” الله محبّة ” . المحبّة ، من حقيقتها ، تخلّي وبذل وعطاء وخروجٌ من الذات . إنها تهب الآخرَ حريّة أن يكون هو ، داعية ً له بالإكتمال والنموّ . المحبّة ، سبّاقة دائمًا ولا يمكنها ، من طبيعتها ، أن تنتظر من الآخر أيّ شروط ٍ معيّنة تحرّضه بأن يفعلها ، وبعدَ ذلك تأتي المحبّة . وكأنّ القضيّة مساومة ! ، كلّا فلا مساومةٌ في المحبّة . المحبّة معطاءٌ من ذاتها ، وليست مشروطة أبدًا . ومَن يفهم بأنّ المحبّة مساومة وبشروط ، لا يمكنه أبدًا أن يدخل حتى إلى عتبة فهم سرّ التجسّد الإلهيّ .
وبما أننا نتكلّم هنا حول سرّ التجسّد والمحبّة ، فنقول مع آباء الكنيسة ، بأن التجسّد الإلهيّ ليس نتيجة ً حتميّة حصل بسبب سقوط الإنسان ، فهو (التجسّد) ، مفصولٌ عن ” سقوط الإنسان ” ؛ فليس الله تجسّد وأتى إلى العالم بسبب أنّ الإنسان أفسدَ الطبيعة وشوّه عدل الله وأهان كرامته !) ، بل التجسّد هو سرّ المحبّة الإلهيّة المعطاءة ، التي هي ” مشاركة الإنسان في الخلق والطبيعة الإلهيّة ” ، فسرّ التجسّد يكشف لنا سرّ الثالوث التدبيريّ ، وسرّ الثالوث الأزليّ الواحد في الجوهر ، يعطينا معنىً عميقا ، لا يمكن لأوّل وهلة ٍ فهمه ، لسرّ التجسّد والعطاء والبذل . ففي داخل سرّ الله الثالوثيّ ، هناك : الحبّ والمحبوب والمحبّة . هناك قمّة في البذل والعطاء والغيريّة والتخلّي وعدم إمتلاك أنانيّ ، بل إنفتاحٌ تامّ أزليّ . وقد كشفَ يسوع الناصريّ ، في علاقته ، وفي سرّ بنوّته ، هذا الإنفتاح التامّ الكليّ للآب . إنّ يسوع الناصريّ هو انفتاح تامّ على الآب وعلى العالم . علاقته عموديّة وأفقيّة ؛ وكشفت هذه العلاقة فوق الصليب ، الذي هو قمّة المحبّة المعطاءة ، وسرّ الكشف الإلهيّ الذي ، منذ البدء ، في سرّ الميلاد ، كشفَ بصورة ٍ مستترة ٍ .
نزول الله في في عجينة التاريخ البشريّ وتشوّهاته ، والفوضى العارمة التي فيه ؛ من دون أن يفقدَ شي من ألوهيّته ، لا بل هو بذاته ، مَن أعطى الإنسان نعمة َ المشاركة ، رغم خطيئته ، في الحياة الإلهيّة ، لإنه حبّ عظيم ، هذا النزول لم يكن ، أبدًا ، إلى اللاشيء ، اللامنتمي ، بل إلى رفع الإنسان الأوّل الخاطئ للعلى ، ولكي يُجلسه عن يمينه . هذه الكتلة الترابيّة التي هي ” أنا ” ، لها مكانٌ عندَ الله . فـ ” أنا ” لستُ وحيدًا ، متروكــًا لقدريّة الأساطير ، بل أنا ” ابنٌ ” بالمعموديّة وبمسحة الميرون المقدّس . أعطاني المسيح هذه النعمة بولادته وموته وقيامته . سرّ التجسّد ، هو سرّ تجسّد النعمة والمحبّة والحريّة ، سرٌّ كبيرٌ غير خاضع لنظريّات رياضيّة وجبريّة وحسابيّة ، بل هو ” علاقة أب مع ابنه ” ، علاقة ألفة وعشرة وتآلف وتبادُل .