1. في ذكرى الأربعين لانتقال أخينا المثلّث الرحمة المطران منصور حبيقه إلى بيت الآب في السماء، تأتينا كلمةُ الملاك إيّاها ليوسف البار في الحلم “لاتخف”، في ما نحن عليه من حالة حزن وأسى على وفاة المطران منصور المبكِّرة والمرّة، وحالة الفراغ التي خلّفها بغيابه، فضلاً عمّا يكتنفنا من مخاوفَ أمنية وسياسية واقتصادية، وما يحيط بوطننا من مخاطرَ ومصاعب تتهدّده في كيانه ومؤسّساته. لكن مع كلمة “لا تخف” يوحي لنا اللهُ بالمخرج الأفضل من أسباب الخوف، تماماً كما فعل مع يوسف في حَيرته وخوفه أمام سرّ حبل مريم والتدخّلِ الإلهي الذي غيّر مشروع حياته، وأمام واقعه الجديد.
2. تأتي الذكرى الأربعون، ونحن على مشارف عيد ميلاد المسيح – الإله، الذي صار إنساناً لكي ينتشلَنا من ظلمات الحياة. وقد أشعّ نورُ ميلاده في ظلمة الليل، على ما تنبّأ أشعيا: “الشعبُ السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، والمقيمون في بقعة الظلام، أشرق عليهم نور” (أش9: 1؛ متى 4: 16). نحن نرى، بعين رجائنا المسيحي، أن ميتة المطران منصور هي ميلادُه في السماء. لذا نُرفق بهذه الذبيحة الإلهية، التي نرفع فيها قربان ابن الله المتجسّد لفداء العالم، قرابين أعمال المطران منصور، ملتمسين له وافرَ الرحمة الإلهية وإشراكَه في سعادة الرعاة الحقيقيين، حول “راعي الرعاة العظيم” يسوع المسيح (راجع 1 بطرس5: 4).
3. سمع المطران منصور، في أعماق نفسه، كلمة المسيح “لا تخفْ“، بفضل ما تربّى عليه من إيمان بعناية الله في البيت الوالدي في حدث بعلبك. فوضع إيمانه ومواهبه الفكرية وعلومَه وثقافته وخبرته في كلّ مرحلة من مراحل حياته، إكليريكياً وكاهناً وأسقفاً. وهي مراحل رافقناه فيها، على مقاعد الإكليركية البطريركية بغزير، وفي دراسة الحقوق في روما والتعاون في برنامج اللغة العربية بإذاعة الفاتيكان، وفي خدمة القضاء في محاكمنا الروحيّة. وأخيراً في الجسم الأسقفي كمطران لأبرشيّة زحلة، ورئيس لمحكمتنا البطريركية الإستئنافيّة، ومشرف عليها وعلى محكمتنا الإبتدائيّة الموحّدة، وعضو في المجمع الدّائم، واللجنة القانونيّة، ومحكمة سينودس الأساقفة، وسواها من اللّجان على صعيد مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. هذا فضلاً عن تدريس مادة الحق القانوني في جامعتَي الرّوح القدس – الكسليك والحكمة – بيروت. تحمّلَ المسؤولية في كلّ هذه المهامّ بهدوء ورويّة وحكمة ومواظبة، لأنّ في أعماقه كلمةَ الرب يسوع المطمئنة “لا تخف”. وامتدحَ الجميعُ إدارتَه الحكيمة والواعية لشؤون الأبرشية والمطرانية، وحسنَ تدبيره الراعوي وسهرَه على دقائق الأمور.
4. إنَّ أبرشيّة زحلة، بأسقفها السّابق أخينا المطران جورج اسكندر، وكهنتها ورهبانها وراهباتها وقادتها المدنيّين وشعبها، تحفظ له جميلاً كبيراً على ما أنجزَ بالتّعاون مع السّادة مطارنة الكنائس الأخرى على صعيد مدينة زحلة، في الشّؤون الراعويّة المشتركة، وعلى إنجاز بناء المطرانيّة والكاتدرائيّة بذوقٍ وفنّ، مكمّلاً ما بدأه سلفُه، سيادة المطران جورج. واطمأنّ باله بإغناء كرسي المطرانية بكابلّة القديس البابا يوحنا بولس الثاني، بفضل سخاء عائلة مُحسنة مشكورة من عائلات زحله. فكانت هذه الكابلّة مكان ارتياحه ولقائه اليومي مع الله، بحضرة القديس يوحنّا بولس الثاني، الذي طالما ردّد منذ اليوم الأوّل لارتقائه السدّة البطرسيّة: “لا تخافوا من أن تشرّعوا للمسيح أبواب عقولكم وقلوبكم، عائلاتكم وبلدانكم، ثقافاتكم وتطلعاتكم!”. نحن نعتقد أن المطران منصور خلال السنة الأخيرة من حياته، التي كان يصارع فيها المرض المميت، كان يشعر في هذا المكان بطمأنينة داخلية، فسلّم أمره لمشيئة الله بروح العبادة، ولم يخف.
5. وفوق ذلك اكتسب ثقة المحسنين من لبنان والخارج، فسخَوا عليه في المساعدة على إنجاز مشاريعه. وفيما هو على فراش الموت، أنجزَ أمنيته الغالية على قلبه بشراء دير يسوع الفادي وممتلكاته، مطمئنًّا، كأب صالح، أنّه يترك للأبرشيّة إرثاً راعويّاً أساسيّاً من أجل الازدهار الروحي والراعوي والإجتماعي، إلى جانب ما ادّخرَ لها من إرثٍ مادّي. وعندما حانت ساعة الرحيل، استطاع أن يقول: “الآن أطلق يا ربّ عبدك بسلام. فقد رأت عيناي خلاصك” (لو2: 29- 30). أمّا أنتم فعبّرتم مع سواكم عن تقديركم الكبير للمثلّث الرحمة المطران منصور، من خلال إحاطتكم له وصلواتكم من أجل شفائه، ثمّ من خلال المشاركة الكثيفة في وداعه، ما أضفى على هذا الوداع المرّ وشاحاً من القُدسيّة والمهابة والوقار.
6. كل هذه الأمور تشكّل العزاء الحارّ لكم يا أشقّاءه وشقيقاته الأعزّاء ولأولادكم وعائلاتكم وآل حبيقة الكرام، ولكم يا أبناء وبنات أبرشيّة زحلة، ولكم يا كهنتها ورهبانها وراهباتها. ثقوا أنّه يشفع لدى الله من أجلكم، فيما أنتم مع سيادة المدبّر البطريركي للأبرشية المطران جوزف معوّض السّامي الإحترام، تواصلون مسيرة حياتكم الروحيّة والراعوية، وتتهيّأون بالصلاة والإبتهال لكي يُرسلَ لكم المسيح راعي الرعاة الأسمى راعياً للأبرشية مثل قلبه بحسب الوعد الإلهي (راجع إرميا3 : 15).
7. لا تخفْ! لا تخافوا. كم من مرّة ردَّدَ الربّ يسوع هذه الكلمة المطمئنة لتلاميذه وللشعب، من بعد أن قالها الملاك لمريم وقد نالت حظوة عند الله بأن تكون أمّ ابنه الإلهي المتجسّد، ولزكريّا وقد استجابَ الله دعوته وسيكون له ولد في شيخوخته.
قاله
ا الربّ لبطرس المنذهل من صيد السمك العجيب: “لا تخف سأجعلك منذ الآن صيّاد بشر”(لو5: 10). وقالها للشعب الخائف من الاضطهاد وشرور الناس: لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا قدرة لهم على قتل الروح. بل خافوا بالحريّ من الذي يقدر أن يهلك الروح والجسد كليهما في جهنّم… فحتّى شعر رؤوسكم كلّه مُحصىً، فلا تخافوا”(متى 10: 28-30). قالها لتلاميذه، تلك الأقلّية التي اختارها لتحقيق تصميمه الخلاصيّ وسط الكثرة الكبيرة من الشعوب: “لا تخف، أيها القطيع الصغير، فقد حَسُنَ عند أبيكم أن يعطيَكم الملكوت”(لو12: 32). وعندما كانت سفينتهم في وسط البحر، وقد طغت عليها الأمواج وعاكستها الرياح، مضى إليهم يسوع في الهجعة الثالثة من الليل ماشيًا على البحر، إذ استولى عليهم الذعر، وقال لهم: “تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا”(14: 24-27). وقالها لرئيس المجمع الذي كان يرجوه أن يذهب إلى بيته ويشفي ابنته المدنفة على الموت، وإذا بمن جاء يقول له: “إن ابنتك قد ماتت، فلا تزعج المعلّم”. سمع يسوع وقال له: “لا تخف، آمن فقط”. وذهب يسوع معه إلى بيته وأقام ابنته من الموت(راجع مر 5: 35-42). وقالها لآخر مرّة لتلاميذه، وقبيل آلامه وموته: “سيكون لكم في العالم ضيق. ولكن لا تخافوا واطمئنّوا، أنا غلبت العالم“(يو 16: 33).
8. إنّ يسوع المسيح الذي “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد“(عب 13: 8) يقول لكل واحد وواحدة منّا، بل ولكل جماعة: “لا تخف! لا تخافوا” في هذا الظرف الدقيق: في الوضع السياسيّ المتأزّم، وفراغِ سدّة رئاسة الجمهورية، وبالتالي في تعثّر نشاط مجلس النواب، ومهامِ الحكومة، واستباحةِ مخالفة الدستور والميثاق الوطني وصيغة المشاركة المتوازنة؛ وفي حال التلاعب بالمال العام؛ وتفشّي الفساد في الإدارات والمؤسّسات، وتزايدِ نفوذ النافذين؛ وفي الوضع الاقتصادي الذي يُنبئ بالخطر بسبب ارتفاع الدين العام المتزايد، والشلل الاقتصادي الحاصل؛ وفي تداعيات تدفّق النازحين السوريّين وقد بلغ عددهم مليونًا ونصف المليون، وهو على تزايد إذا لم تتوقّف الحرب في سوريا.
أجل، يقول لنا الرب يسوع: لا تخافوا! لكنّه يدعو الكتل السياسية ونواب الأمّة للقيام بواجب ضميرهم الوطني ومسؤوليتهم الدستورية وانتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد، ونحن ندعو الجميع للصلاة الدائمة معنا على هذه النية. ويدعو المسيحُ الرب الجماعة السياسية إلى تحمّل مسؤولياتها في تبديد كلّ المخاوف التي ذكرنا، لكي يتمكّن اللبنانيون من عيش فرحة الأعياد الميلادية.
9. ولنا جميعًا يردّد الربّ يسوع: لا تخافوا! ويدعونا للصمود في أرضنا وفي هذا المشرق من أجل الشهادة المسيحية للحقيقة والمحبّة والعدالة والسلام. يدعونا لعدم الانحراف عن المسلك الصالح، ولعدم انتهاج خطّ الكذب والازدواجيّة، ولعدم مبادلة الشرّ بالشر. إنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى القيَم الروحية والأخلاقيّة والإنسانيّة التي يزرعها يسوعُ المسيح وإنجيلُه وتعليمُ الكنيسة في العقول والقلوب. إنّه يدعونا لكي لا نكون أبدًا عنصر تخويف، بل لنكون عناصر سلام وطمأنينة وحياة سعيدة، في العائلة والمجتمع والدولة، وبناة حضارة المحبة.
10. وينادي الرب يسوع قلوبَ المخطوفين العسكريين وأهاليهم، ويقول لهم: “لا تخافوا”. إنّه متضامنٌ معكم، ونحن نجدّد أيضًا وأيضًا تضامننا معكم. ونصلّي لكي يشدّدَ اللهُ عزائمَكم، ويمَسَّ ضمائر الخاطفين، ويُكلّل مساعي الحكومة ووسطاء الخير بالنجاح والبلوغ إلى الإفراج عنكم وإعادتكم سالمين إلى عائلاتكم بنعمة ميلاد الفادي الإلهي، فينعم الجميع بالسعادة ودفء العائلة.
وليرتفع من قلوبنا الراجية سلامَ المسيح ومحبّتَه نشيدُ المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.