عندما يقول يوحنا الرسول في بداية إنجيله ” في البدء كان الكلمة ….. ” ، فهو ، بالإضافة إلى البداية المطلقة ، فهو الإستمراريّة الأبديّة ! فهو بدءٌ ونهاية ، والآن _ حاضر دائم . والكلمة ليست نطقــًا أثيريّا هوائيّا يصدر من الفمّ ، بل هو ” شخص – أقنومٌ حيّ عاقل ، لا بل هو العقل الشامل والخلاّق ، والمعنى الكامل لكلّ شيء . به كانت الحياة ، وبغيره لم تكن . هذا الكلمة – الشخص ، أضحى ” لحمـًا – بشرًا ” ، عاشَ في التاريخ البشريّ بكلّ ضعفاته ، مُجرّبا بكلّ تجارب الحياة ، ما عدا الخطيئة . لهذا ، فهو يعرفُ تناقضات الحياة وصراعاتها الكثيرة ، وكلّ آلامها .
سرّ التجسّد ، هو سرّ الله الذي دخل في معترك حياة العالم وتاريخ الإنسان ، قاصدًا أن يعيش مع الإنسان ومن أجل الإنسان . ليجعلَ منه ” ابنا خادمًا ” ، لا ” عبدًا ذليلا ” خاضعًا لقدريّة غامضة لا تمتّ بصلة ٍ لما جاءَ به يسوع الناصريّ . سرّ الله الذي كشفهُ لنا المسيح ، وجعله واقعًا حيّا ؛ وأعطانا رموزا حيّة من واقع الحال ، ومن الحياة اليوميّة ، فهو أعطانا رموز كثيرة لكشف حقيقة الله وسرّ تجسّده مثل : ماء ، زيت ، ملح ، زرع ، خبز ، خمر ، حقل ، ثمر ، كرمة …. الخ . كلّ هذه الأشياء الماديّة الواقعيّة ، وضعَ يسوع فيها سرّ أبيه ، وسرّه هو أيضا ، وسرّ الروح القدس ، لا بل سرّ العلاقة بين الله والإنسان . لقد وضعَ يسوع الناصريّ بالدليل الواقعيّ الحيّ ، الذي هو ، كما رأينا أعلاه ، الحاجيّات الضروريّة للحياة اليوميّة ، وكشفَ من خلالها : سرّ التجسّد الإلهيّ .
لا نستطيع أن نعطي كلّ الأمثلة الحيّة التي أعطاها لنا الربّ يسوع في الإنجيل ، فهي كثيرة جدّا . لكنّنا نستطيع أن نلمّح إليها لإعطاء صورة حيّة لسرّ التجسّد وعلاقته بسرّ المصالحة والغفران . ليس التجسّد مختصّ بسرّ الألوهيّة فقط ، بل بالإنسانويّة أيضا ! . الإنسان هو صورة الله ومثاله . والله صار إنسانـــًا وليس حجرًا ، أو مادّة ما ، أو شيئا آخرًا من أغراض الكون : بل إنسانا . والإنسان يجب ، في هذه الحالة ، أن يكونَ ملبّيا دعوة الله له ، بالإيمان وبالمحبّة وبالرحمة . وأيضا ، وهذا هو المهمّ ، بالسماع لكلمة الله وطاعتها كي تُزرَع في حديقته الداخليّة وتنمو وتكبر ، لبناء شجرة الملكوت الحيّ وسيادته الله الآب على الحياة . بالمحبّة الغافرة والمصالحة الدائمة ، والغفران من دون مقابل ، نكشفُ سرّ التواضع الإلهيّ ا لذي ، ومن خلال إلتزامنا الدائم بالخدمة وبالرحمة وبالمساعدة للقريبْ وللفقير ، سنبيّن مستقبل الإنسان الذي يريده الله الآب منّا : أن يكون محترمًا ، ذا حقوق سليمة ، من دون ظلم ولا غبن ولا استهزاء.
من المؤلم جدّا ، أن نرى الكثيرينَ لا يعيشونَ سرّ الغفران والمصالحة والتواضع كما أراده يسوع المسيح منّا . تُراهم يعيشونَ ، ويأكلون ، ويلبسون ، ويضحكونَ ، ويعشّشون المال الوفير ، من دون أن يرفّ لهم جفنٌ لمساعدة الغير . فنرى بدلا من ذلك ، الكلام السيء البذىء الذي يخرجُ من أفواههم . والبعض الآخر ، مَن وفّرت له الحياة الخير الدائم من المال والجاه ، تُراهم ينظرون إلى الفقير البسيط نظرة إحتقار ٍ وإستصغار ٍ ودونيّة ، وكأنّهم ليسوا إنسانيّين ! يتلاعبونَ بمصائر الناس البسطاء ولا يحرّكون ساكنا للمس سرّ التجسّد الحقيقيّ وسرّ المصالحة والغفران الذي فقدوه . نصلّي ، ونحن نقتربُ من أعياد الميلاد ، ومجيء الله بالجسد إلينا ، أن يمنحَ هذا السرّ العظيم ، سرّ التقوى ؛ أن يحرك العقول ، ويُليّن القلوب بالمحبّة والرحمة والطاعة والتواضع . آمين