يكشفُ سرّ ميلاد المسيح، الذي شطرَ التاريخ لنصفين، ما قبل الميلاد وما بعده، أنّ الله قادرٌ على ما لا نتوقّعه . فنحنُ ، كثيرًا ما ، بدلا من أن نسمع ونطيع الله ، نعطي صورًا وأفكارًا وآراءا لما نحنُ نريده ؛ فلا عجب إن كان يستحيلُ على الناس عدم تصديق سرّ تجسّد المسيح ودخول الله في عجينة التاريخ البشريّ ، إن كانوا هم من يقرّرون ما هو الصحيح وما هو الخطأ ، واللازم والــ يجب واللابدّ والممنوع والمسموح … !
ويقول البابا بنديكتوس السادس عشر : ” البسيط هو الصحيح ، والصحيح هو بسيط (….) ، مشكلتنا هي أننا لكثرة الأشجار لا نعود نرى الغابة ، وأننا لكثرة العلم لا نعود نجدُ الحكمة ” . ويضيف : من هذا المنطلق ، يسخرُ سانت أكزوبيري هو في ” الأمير الصغير ” من ذكاء عصرنا مظهرًا كيف يُهمَل الأساس، وكيف أنّ الأمير الصغير الذي لا يفقه شيئا من كلّ هذه الأشياء الذكيّة، يرى في المقابل أكثر ويرى بوجه أوضح .
المهمّ .. ما هو المهمّ ؟ ما هو الحقيقيّ الذي يفيد ؟؟ يقول بنديكتوس : أن نرى ما هو بسيط ، هذا هو المهمّ . ويتساءل : لماذا لا يجوز أن يكون في إستطاعة الله أن يُنعِم على عذراء بأن تلد ؟ بالطبع ، إذا كنتُ أنا نفسي أقرّر ما يمكن أن يكون وما لا يمكن أن يكون ، إذا كنت أنا من يثبت حدود المستطاع ، ولا أحد غيري ، عندها يمكنني استبعاد هذا النوع من الظواهر .
يجب أن نفهم الفكرة الجوهريّة الواردة في الكتاب المقدّس ، والتي تقول : إنّ التاريخ يدخل مرحلته النهائية مع مجيء المسيح ، وأنّ التطوّر الذي طرأ على العقود الأخيرة ، وتسارع عجلة تاريخ العالم ، والتهديد المتزايد عليه ، دخل في تصوّراتنا بقوّة فكرة نهاية الأزمنة . فمجيء المسيح وولادته ، هو بداية نهاية الأزمنة وكشفٌ للتدبير الخلاصيّ الإلهيّ . وكشفٌ لسرّ الإنسان إكتماله . بميلاد المسيح ، بدأت مرحلة جديدة لتطوير جزيئات الإنسان والكون وتنظيمها بصورة خلاّقة بقوّة ” اللوغوس – الكلمة – العقل – المنطق – المحبّة – والمعنى – والحكمة ” ، ليست هذه الكلمة مجرّد تعابير وصيغ اعتباطيّة ، أو عاطفيّة . بل حقيقيّة وواقعيّة . والعلوم لا يمكنها أن تُدرِك حقيقة هذه الكلمات لإنها ، غالبًا ما ، تقفُ مكتوفة الأيدي أمام عظمتها ، لإن العلم يخضعُ للتجربة والبرهان ، وهذه الكلمات لا تخضعُ للتجارب المختبريّة والعلميّة والتطبيقيّة . فولادة المسيح ، هو ولادة المنطق والحكمة والمعنى والتنظيم والترتيب .
إن ميلاد المسيح ، هو نقطة تحوّل الكون وتجديده ، ومن خلال التجديد يتربّع الإنسان سيّدا على العالم بنعمة الله الخلاّقة التي تحوّل وتغيّر وتجدّد وتُطوّر ، فلم يعد القدر ولا الصدفة ولا العبثيّة هم سيّد المواقف ، بل تدبير اللوغوس الأزليّ وسرّ العناية الألهيّة الخلاّقة ورحمة الابن . إنه سرّ الكلمة المتجسّدة في العالم بقوّة الروح القدس . ولدت الكلمة الخلاّقة من رحم الأرض العذراء النقيّة الطاهرة . وضع الله بذرة جديدة في رحم العذراء النقيّة ، خليقة جديدة من دون زرع بشر . لإنّه ” البداية المطلقة ” التي ليس بعدها ولا قبلها بداية . إنّ سرّ الميلاد والتجسّد ، هو سرٌّ شاملٌ لخلق جديد وليس لاعادة ما هو قديم وتصحيحه وكأنّ الله ندمَ على ما فعله … ! ولهذا ، فيسوع الناصريّ هو ، في هذه الحالة ، ” البدء – المطلق ” في التاريخ الذي ليس قبله ولا بعده بدءٌ . في البدء كان الكلمة وسيكون دائمًا ” البدء والنهاية ” .
يتبع