شمشون بين طفل وطاحونة (12)

وصل شمشون إلى مكان الأعمدة واستند عليها بذراعيه، بسط يديه كمصلوب، وهدم الأعمدة فسقط المعبد، ومات شمشون وبموته قتل من الأعداء أكثر ما قتل في حياته. بموته قضى على العدو.

Share this Entry

غريب هذا الأمر. ما فعله شمشون عندما كان أعمى وضعيف لم يستطع فعله عندما كان قوي ومبصر. لماذا؟ هل لانه استند على يمين الرب؟ هل لانه دخل في مشيئة الرب حتى النهاية؟

شمشون في هذا هو صورة للمسيح الذي بموته أيضا قضى على موتنا، وبصليبه جبل لنا الحياة.

موت المسيح، اي موت ابن الله، هو عثرة لليهود وحماقة لدى الوثنيين. فهل يُعقل ان يموت ابن الله؟ الموت هو نهاية، هو حد، فكيف يموت ابن الله؟ كيف يموت الأبدي؟

دي لا بوتيه، في كتابه الام المسيح[1]، يؤكد ان موت المسيح ليس فقط عبارة عن تضحية مؤلمة او فعل بطولي، بل هو حدث يعلن من خلاله المسيح عن ذاته. لم يمت المسيح على الصليب كي يُظهر لنا فقط  مقدار الآلام التي تحملها من اجلنا، بل كي يُظهر لنا مجده: طبيعته.

فطبيعة الله هي محبة، ولكن اي محبة؟

فالمحبة هي شعور عميق يدفع المُحب لاعطاء ذاته دون انتظار المقابل، ويَظهَرُ عُمق المحبة  بالأخص عندما يتلقى الرفض والنكران، اي انها  تتجلى عندما تجد امامها اللامحبة. هذا السر كبير حقا، فالمحبة تتلألأ عندما تجد امامها من يرفضها، من يخنقها، من يقتلها، لانها الوحيدة التي تستطيع ان تصمد امام عدم المحبة.

هكذا موت المسيح يُظهر لنا محبته. فالموت الذي هو نهاية الوجود والكيان يتحول ناطق ومبشر بحب الله للبشر. فالموت قد مات اذاً، لم يعد له وجود، تحطم من الداخل، تغيرت هويته، لم يعد الحَد الذي يفصلنا عن الوجود وتحقيق الذات بل أصبح إمكانية لتحقيق الذات وإعلانها كلياً.

الموت، ليس فقط الموت الجسدي، ولكن ايضاً الموت الذي يختبره الإنسان كل يوم: عندما يشعر انه مكروه او مظلوم، عندما  يعاني من الم او من مرض. هذا الموت اليومي لا يكون بَعدَ الان حَدٌ لنهاية الامل والحياة، بل امكانية كي يحقق الانسان نفسه كاملاً ويُظهر طبيعته كابن لله، وريث مع المسيح، شخص قادر ان يحب.

مات شمشون، مات المسيح. بموت شمشون قضى على أعداءه، وبموت المسيح قضى على موتنا. فتح لنا باب السماء.

المسيح على الصليب يطلب المغفرة لكل البشر. لانه فقط بالمغفرة ممكن ان يولد الإنسان الجديد. وبعد المغفرة يعطي الرب شيئا اخر للانسان: وعدا! نعم، وعد من اجله يحيا الإنسان. فيقول يسوع: “اليوم ستكون معي في الفردوس” (لو 23: 43). هذا هو الوعد المعطى لكل من يقبل المغفرة، مثل شمشون. وعد بحياة أبدية. وعد بالنعيم الذي يبدأ من اليوم. 

والوعد يتحقق في رحم الكنيسة. فالمسيح يرسل الكنيسة كأم لمن يقبل هذا الوعد كي تلده للحياة، وتنمي فيه هذا الوعد. ويقول، الآن لديك أم سترعاك: “أيتها المرأة، هذا ابنُك.  و لَلتِّلميذ: هذه أُمُكَ” (يو 19: 26).

وان بدأ هذا الوعد يختفي مع صعاب الحياة. ونرى اننا اليوم بعيدون كل البعد عن هذا الفردوس بل بالأحرى اننا قريبون من الجحيم؛ جحيم الظلم، جحيم خطايانا وعيوبنا الشخصية، جحيم شر الآخرين تجاهنا، او شرنا تجاه الاخرين، نرى انفسنا مثل شمشون، ندير الطاحونة، هذه الكنيسة، الطفل، تقيمنا بأسرارها من جديد، تلدنا من جديد، وتنمي فينا الثقة بالآب.

نعم شمشون هو صورة لكل مسيحي قادته خطواته الخاصة ومشيئته الى الطاحونة وافتقده الرب وأنقذه منها بطفل. نعم شمشون هو انا وانت بين طفل وطاحونة.

[1] Cf. De La Potterie, I. La Passione di Gesù, San Paolo, 1998, 12.

Share this Entry

الأب د. هاني باخوم

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير