1. الخبرُ المُفرح العظيم هو بدايةُ عهدٍ جديد في حياة الإنسان والعالم يقود إلى يسوع المسيح، فادي الإنسان ومخلّصِ الجنس البشري. إنّه عهدُ انتصارٍ على الظلمة، عهدُ خبزٍ سماوي لحياة البشر، عهدُ السلامِ والرجاء في الأرض ومجدُ الله في السماء.
2. يسعدُنا أن نحتفلَ معكم بعيدِ ميلادِ الربِّ يسوع، وبهذا العهدِ الجديد، راجين أن يولدَ المسيحُ في قلوبنا لكي نلتزمَ ببناءِ عهدٍ جديد في عائلاتنا ومجتمعاتنا ووطننا. نحيّيكم جميعاً، أيّها الحاضرون، ونُعربُ لكم عن أخلصِ التمنيات والتهاني بالعيد. نسألُ المسيحَ الربّ أن يفيضَ عليكم “فرحه العظيم” المملوءَ نعماً وبركاتِ خيرٍ وسلامٍ ورجاء، فتخرجون من هذا اللقاء مع طفلِ المغارة بفرحِ رعاةِ بيتَ لحم، مسبّحين اللهَ على كلِّ شيء بأعمالِكم ومبادراتكم الجديدة التي تدلُّ على التزامِكم في بناء عهدٍ جديد في العائلة والمجتمع والوطن.
3. ليست البُشرى “بفرح عظيم” خبراً من الماضي يقفُ عند زمانه. بل هي خبرٌ متجدِّدٌ في كلّ مكان وزمن، وخبرٌ لنا اليوم. فالمسيحُ إيّاه، الذي “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عبرا 13: 8)، هو نفسُه الخبرُ والفرح العظيم. إنّه كلمةُ الله، كلمةُ الحياة والنور، الذي صار بشراً منذ ألفَي سنة، والذي يريدُ أن يكونَ “هذا البشر الجديد” في كلّ إنسان. إحتفالُنا بذكرى ميلادِ المسيح الفادي والمخلّص هو بالحقيقة احتفالٌ بميلادنا نحن فيه لولادة جديدة بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار. نحن نتمثِّل ميلاده وثماره في المغارة والشجرة، كتذكارٍ لِما جرى، لكنّنا في الواقع نسعى لأن يتحقّقَ فينا اليوم هذا الذي جرى منذ ألفَي سنة، أي أن يولدَ المسيحُ في قلوبنا، ويجعلَ منّا جسدَه الحيّ، وأن نتلألأ في شجرة الكنيسة بالفضائل الإنجيلية والإنسانية، وبالقيَم الاجتماعية والوطنيّة.
4. عهدٌ جديد بدأ في الميلاد، ونحن اليوم مدعوّون لنعيشَه عهداً جديداً في عائلاتنا ومجتمعاتنا ووطننا. لا يمكن البقاء في ماضي الأمس العتيق، ماضي الرؤية الضيّقة والموقف المتحجّر، ماضي الرأي الجامد والنظرة القصيرة، ماضي المصالح الصغيرة المقفلة على الصالح العام. فالبقاءُ في ماضي الأمس موتٌ في الحاضر والمستقبل. إنّ سيّدَ التاريخ هو الله، أمّا الإنسان، كلُّ إنسان، فهو معاونُ الله في صنع التاريخ. إنّها مسؤوليةٌ تأتي كلّ واحد وواحدة منّا في موقعه وعمره وحالته ومكانته ومسؤوليته.
في هذا العهدِ الجديد أتانا خبزٌ من السماء، هو خبزُ كلمة الله التي هي الكلمة المتجسّدة، يسوع المسيح، وخبزُ جسده ودمه. هذا الخبز وُلد في مدينة الخبز “بيت لحم” بحسب مفهومها اللَّفظي. وهو الذي يُدخلُنا في عهدٍ جديد مع الله والناس. إنّه خبزُ الحقيقة المطلقة التي تنير جميعَ حقائق الناس النسبية؛ الحقيقة التي تحرّر وتوحّد. وهو خبزُ المحبة والعطاء الذي يجعل من المسؤولية والسلطة خدمةً تتفانى حتى بذل الذات. وهو خبزُ السلام المزروع من الله في قلب الإنسان، لكي نصنعه سلاماً اجتماعيّاً مبنيّاً على العدالةِ بكلّ وجوهها؛ سلاماً اقتصاديّاً مبنيّاً على شروطِ الحياة الكريمة، وعلى إنماءِ الشخص البشري والمجتمع؛ سلاماً وطنيّاً مبنيّاً على احترامِ حقوق المواطنين بوجود دولةٍ تؤمّنُ لهم، من خلال مؤسَّساتها الدستورية والعامّة، الخيرَ العام الذي يشمل كلَّ شروط الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية؛ دولةٍ يكون الولاء لها أوّلاً وآخراً، ويُحترَمُ فيها الدستور والميثاق الوطني وصيغة العيش المشترك بالمساواة والمشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة.
5. قيمتُنا وكرامتُنا أنّنا مدعوّون لنحقّقَ هذا العهدَ الجديد في زماننا ومكاننا. فلنُسرعْ إلى هذا الالتزام، كما أسرعَ رعاةُ بيتَ لحم إلى المغارة، ورجعوا حاملين الرجاءَ والفرح والمعنى لوجودهم؛ وكما سارَ المجوسُ من المشرق البعيد وبحثوا عن الطفل، الملكِ الجديد المولود، ورجعوا ممتلئين حكمةً وفطنةً في الحياةِ اليومية وسعادةً لا توصف.
كم نتمنّى أن يكونَ مجيئُنا إلى أمام مغارة الميلاد <strong>دخولاً في منطقٍ جديد، ومقصدٍ جديد؛ وانقلاباً على ماضٍ عقيم وغيرِ مجدٍ. فالمسيحُ الذي نُحيي ذكرى ميلاده نورٌ سطعَ في ظلمات الليل، لكي يسطعَ كلَّ يوم في ظلمات حياة كلِّ إنسانٍ وجماعة وشعب. نعني بها الظلمات الروحية والفكرية والثقافية؛ ظلمات الخطيئة والشّر؛ ظلمات الكذب والتجنّي عبر التقنيّات الجديدة وسوء استعمال حرّية الإعلام؛ ظلماتِالرؤية الضّيقة التي تغشاها المصلحةُ الشخصية والمآرب الخاصّة؛ ظلماتِ الحقد والبغض والعداوة؛ ظلماتِ الأحكامِ المسبقة والمغرضة التي تأسر عقل صاحبها، وتكذّب الحقيقة الواضحة، ورؤية العين، وسماع الأذن.
6. وكم نودُّ أن يساعدَ هذا النورُ الإلهي المسؤولين السياسيِّين ليَرَوا الأخطارَ والنتائجَ الوخيمة على الكيان اللُّبناني والمؤسسات الدستورية التي يُحدثُها عدمُ انتخاب رئيسٍ للجمهورية؛ وليَرَوا كيف أنّ غيابَ رئيسٍ للبلاد يولِّدُ الفوضى ويستبيحُ التعدّي على المال العام ومرافق الدولة، ويعطّل أجهزة الرقابة، وينشر الفساد في الإدارات العامّة، ويسه
ّل الرشوة على حساب الدولة وأموالها وأملاكها ونموّها وتقدّمها. مَنْ يضمنُ حمايةَ الدستور والميثاق الوطني وصيغة المشاركة المتوازنة بين المسيحيين والمسلمين في الحكم والإدارة غيرُ رئيس الجمهورية؟ مَنْ يطالب بمصالحِ الشعب وبانتظاراتِ الشبيبة غيرُ الرئيس؟ مَنْ يشفق على المواطنين الذين يفتقرون ويجوعون ويهاجرون غيرُ الرئيس؟ مَن غيرُه يفكّر بتطلّعات شبابنا وأجيالنا الطالعة وأحلامهم وطموحاتهم وفرص عملهم المشرّفة؟ ألرئيس هو أبو الوطن والأمّة بكلِّ معنى الكلمة. مَنْ غيرُه يطالبُ بسيادة الدولة وكرامتها ومصيرها؟ إنّنا نصلّي، بإيمانٍ كبير ورجاء ثابت، لكي يرسلَ لنا اللهُ اليومَ قبل الغد مثلَ هذا الرئيس.
ونتساءل: لماذا هذا الاستهتارُ بدورِ الرئيس؟ ولماذا التمادي منذ ثمانية أشهرٍ في الاستغناءِ عنه؟ ولماذا السعي إلى إقناعِ الذات والناس إقناعاً كاذباً بأنَّ البلادَ تسير وتسير حسناً من دون رئيس؟
7. نودّ أن نرفع معكم أخلص التهاني البنويّة بالميلاد المجيد والسنة الجديدة 2015 إلى قداسة البابا فرنسيس، ونشكره من صميم قلوبنا على الرسالة التي وجّهها إلى “مسيحيي الشرق الأوسط“، وأرادها تعبيرًا عن قربه منهم وتضامنًا معهم ومع المخطوفين في لبنان وسوريا والعراق، ومع سواهم من مختلف الاديان، في مختلف محنهم ومصاعبهم، مستمدًّا لهم عزاءَ المسيح. إنّه يدعونا ويدعوهم للصمود في الرجاء والوحدة والشركة، ولأَداء شهادة المحبة والسلام في بلداننا، مع انضمام آلامنا وآلامهم إلى صليب المسيح الفادي من أجل ثمار خير للكنيسة ولشعوب الشرق الأوسط. ويقول لنا ولهم: “أنتم قطيع صغير، بالمفهوم الإنجيلي، ولكنّكم حاملون مسؤولية كبيرة في الأرض التي وُلدت عليها المسيحية، ومنها انتشرت إلى العالم كلّه. أنتم خميرة وسط الجماعة الكبيرة. أنتم، مع الكنيسة الحاضرة بمؤسّساتها التربويّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة، وبعملها الراعوي، ثروة كبيرة للمنطقة”. ويعود قداسة البابا فرنسيس ليؤكّد ضرورة الحوار مع المسلمين وسواهم من الأديان الأخرى، الذين نعيش معهم، على أن يكون حوارًا منفتحًا على الحقيقة بروح المحبة. فالحوار خدمة للعدالة، وشرط ضروري للسلام المنشود. وفي الوقت عينه يحثّ البابا فرنسيس الجماعة الدوليّة على تعزيز السلام في الشرق الأوسط بالتفاوض والعمل الديبلوماسي، وعلى واجب إيقاف الحرب والعنف، وإعادة المطرودين والنازحين إلى بيوتهم، ومساعدتهم في حاجاتهم.
أيها الأخوة والأخوات الأحبّاء؛
8. نحن نؤمن أنَّ النورَ الإلهي يبدّدُ ظلامَ البشر، مثلما يبدّدُ النورُ المادّي ظلامَ الأرض. النورُ الإلهي يفعل ذلك بواسطة أناس مسؤولين استناروا بهذا النور، وأصبحوا معاوني الله في تبديد ظلمات الحياة العائلية والاجتماعية والوطنية. صلاتُنا اليوم امام طفل المغارة ودعاؤنا وتمنياتنا أن يستنيرَ كلُّ واحد منّا بنور المسيح، ويصبحَ نوراً في مكانه وزمانه. صلاتنا أن يُشعّ نور السلام في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدّسة وفي كلّ بلدان الشرق الأوسط. بهذا الرجاء وتعبيرًا عن أخلص تهانينا وتمنّياتنا، نهتفُ: “وُلد المسيح! هـلـلـويا!