رأينا في الحلقة السابقة (بعد توقّف بسبب ظروف خارجة عن السيطرة) ، موضوعَ الله الآب الضابط الكلّ الذي يضبطنا على إيقاع ٍومنطق ٍخاصّين . وسنختم ، في هذه الحلقة الثامنة ، موضوع ” الأبوّة الإلهيّة ” في تاريخ الديانات ، وثمّ بحسب العهد القديم ؛ والأبوّة كما يراها يسوع الناصريّ (بحسب العهد الجديد) .
في كثير من الديانات ، يطلق على الإله الأعظم لقبُ الأب . فاليونانيّون كانوا يدعون الإله زيوس ،” أبا الآلهة والبشر ” . وفي ما بعد ، تحدّث الفلاسفة عن الله كأب لجميع الناس ؛ وقد أرادوا بذلك التعبير عن أنّ في جميع البشر شيئا إلهيّا من طبيعتهم عينها ، بحيث إن الناس كلّهم يكوّنون ، بفضل طبيعتهم البشريّة المشتركة ، أسرةٌ واحدة ، وجنسًا واحدًا . هذا الشبه لا يضيرُ ما يتصف به مفهوم الله في الكتاب المقدّس من أن الله واحد أوحد . في الكتاب المقدّس ، الله هو ” أبونا ” المشترك ، ليس بسبب طبيعتنا المشتركة ، بل بسبب اختياره إيّانا .
يقول هوركهايمر : لا يبقى آباء إذا عنينا بالأب ما عُني به ، طوال قرون ، في تاريخ المجتمع . متشرلخ يتكلّم ، بالإستناد إلى فرويد ، على مجتمع بلا آباء . ويسأل نفسه فورًا ، إذا كانت تجربة الأبوّة البشريّة مفقودة ، وتحمل بالحريّ سمة سلبيّة ، كيف تبقى ممكنة علاقة إيجابيّة بالله الآب ؟
الآب هو ، بجوهره ، الأصل الذي نتعلق به ، ولكن هو أيضا مَن نحن مدينون له بالوجود . إنه مبدأ ينشىء بحريّة وجودنا ويبرّره . لذلك ” فعلاقة الأب بالابن هي رمز الحالة البشريّة بكليّتها ” (ف . كاسبر) .
هناك وراء استعمال اسم الأب في تاريخ الديانات للدلالة على الله ، تعظيم وتثبيت شرعيّ مقدّس لمكانة الأب أبي الأسرة ، كسيّد وكاهن منزليّ . ففي القديم ، لم يكن ” الأب ” ، مفهومًا نسبيّا فقط ، بل أيضا مفهومًا اجتماعيّا – قانونيّا . فقد اضطلعَ أبو الاسرة والسلطة الأبويّة في العالم اللاتينيّ – الرومانيّ على الخصوص بمهمة أساسيّة . ” الأب ” كان الرمز والجوهر القديم والشريف ، والسلطة ، والقدرة التي لا تعطي فقط الحياة ، بل التي تحفظها أيضا . وعليه ، تجمّعت ، في مفهوم الأب ، أسباب الصرامة والإحترام والجودة والعناية . لذلك ، يُخطئ من قَبْل فثي فهم النظام الأبويّ من يفسّره بمعنى أحاديّ الجانب ، معنى ” الإيديولوجيّا الماركسيّة ” ، أي التسلط والاستغلال . سلطة الأب تستند إلى أنه في أصل ونموّ الحياة .
الله آب
لم تكن كلمة الله من اختراع يسوع ، فهو مثلنا تعلّم منذ صغره من عائلته وأقاربه ، وتعلّم أيضا المفهوم السائد عنه . بمعنى آخر ، لقد ورث يسوع معرفة أوليّة عن الله ، لكن هذا الله لم يكن إله الفلاسفة ، بل إله ” ابراهيم واسحق ويعقوب ” ، إله الآباء والأنبياء ، إله التاريخ الخلاصيّ ، إلها حيّا (تتحرّك أحشاؤه) ، وليس إلهـــًا جامدًا في عزلته لا يفكّر إلا بنفسه !
في العهد القديم ، نرى ، في خروج الشعب العبرانيّ ، صورة لإله الحياة والخلاص . الفصح ، هو العبور من الموت إلى القيامة والحياة . وهو الحدث الأهمّ في العهد القديم وفي تاريخ الشعب القديم ، بصورة خاصّة . عاشه الشعب من خلال تقلّبات التاريخ وصراعاته وخياناته ومن خلال ترقّب حثيث ومستمر لتجديد العهد . يسوع ، الذي يسمّي الله أباه ، هو الله نفسه الذي بدأ التاريخ قديمًا . فهو إذن ، كما نرى في صفحات الكتاب المقدّس ، ليس إلهًا فكريّا نظريّا ماورائيّا ، ولكنه ” كائنٌ يتكلّم ويعمل ويدخل في علاقة ” . يقول عن نفسه ” أنا ” ؛ ويقول ويخاطب الإنسان بــ ” أنتَ ” .
المركزيّ في العهد القديم ، هو كلمة ” إله الآباء ” (خروج 3 ) ، إله ابراهيم واسحق ويعقوب ، كما إله الشعب الاسرائيليّ كابن لله ، لا بالولادة الطبيعيّة ، بل بسبب اختيار ودعوة تاريخيّة . فالأبوّة الإلهيّة والبنوّة الإسرائيليّة ، ليستا ، إذن ، قائمتين على اسطورة ، بل على الاختيار الحسيّ لعمل خلاصيّ في التاريخ . إن الله وضع اصبعه في التاريخ وعمل من خلاله ، وهو بهذا ، سيّد التاريخ ، وسيد الإنسان ، ويريد أن يجعل في العالم الجديد والمدهش دائمًا .
يعطينا يسوع بعدٌ آخر ، في كثير من الأحيان ، صعبٌ على الفهم . فهذا البعد كان صعبًا على الرسل أن يدركوه فورًا إلاّ بعد القيامة . بعدٌ جديد مدهش يدخلنا في عالم الأبوّة المتميّز ، وليس هذا فقط ، بل إنه يدخلنا في عالم البنوّة المتميّزة أيضا !
الله الآب ، بحسب يسوع ، ليس هو إله العالم المعاصر اليوم . إله الطلبات والمزاجيّات والحاجات ، وليس أيضا ، إله يستعمل كــ ” قطع غيار ” وقت الحاجة . ليس هو إله ” الخالق فقط ” ، ولا ” الرازق فقط ” ، ولا ” مانحُ الوصايا فقط ” ؛ بل هو إلهٌ كـــشفه يسوع الناصريّ فوق الصليب . إنه إله البذل والعطاء والتخلّي ، إله الرحمة والمغفرة ، إله المصالحة والمسامحة . من جهة الابن الحقيقيّ ، يجب عليه أن يكونَ مسؤولا عن أخوته البشر ، كما فعل الآب السماويّ .
هناك ضرورةٌ قوية لأن أعرف نفسي أنا ، كي أدركَ مَن هو الآب السماويّ . الصورة ستتوضح أكثر عندما أنفصلُ عن التبعيّة الكسولة ، وأدخل في سرّ عزلة الابن ، التي ، من جهتها أيضا ، ستُدخلني في المسؤوليّة الصعبة . أن أكون أنا ” رحومًا محبّا ” كالآب السماويّ ، هنا فقط ، أدخل في ” البعد الآخر الجديد ” الذي أراده يسوع الناصريّ . فوق الصليب فقط ، كشف يسوع لنا ” سرّ الأبوّة الحقيقيّة .
ولهذا ، سؤال فيلبّس وطلبه من يس
وع أن يريه الآب وكفاه ، كان جوابُ يسوع بسيطـــــــًا ، وفي ذات الوقت ، عميقا ويحتاجُ لغوص ٍ في سرّ الله . ” من رآني فقط رأى الآب ” ! من رأى آلامي وموتي وقيامتي ، سيرى وجه الله . محاولات كثيرة جرت خلال التاريخ وتفسيرات غريبة وعجيبة حول هذه العبارة . فيسوع لم يلغ الآب ، أي لم يقل ما معناه ، لا تهتمّوا من بعد بالآب ، أنا موجود وهذا كاف ٍ . وإن لم يقل بعضهم هكذا ، لكنهم أحيانا يلمّحون إليه . معنى العبارة ” من رآني فقد رأى الآب ” : يسوع هو يسوع ، والآب هو الآب ، أي يسوع ليس هو الآب . والله الآب لا يعني أنه الأوّل الذي يسبق الثاني . الآب هو الكائن الذي سيختلف دائمًا عمّا نتصوّر . ما تعنيه عبارة ” من رآني فقد رأى الآب ” ، هي أنّ يسوع هو ” ظهورٌ كامل للآب ” ، أي أنه لا يمكن أن نفهم ونرى ونتحقّق جيّدا من الآب إلا من خلال يسوع وبه ومعه ، أي أنّ يسوع هو ظهور الله لنا بوجه بشريّ قريب لنا .
يتبع : خالق السماء والأرض
مراجع الموضوع
1 – إلهُ المسيحيّين ، فالتر كاسبر ، الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم ، ترجمة المطران يوحنا منصور
2 – المسيحيّة في عقائدها ، نشره مجلس أساقفة ألمانيا ، نقله من الألمانيّة المطران كيرلس سليم بسترس
3 – لاهوت الله ، المطران الدكتور يوسف توما مرقس ، دورة الدراسات اللاهوتية – العراق ، بغداد