Creation of man

WIKIMEDIA COMMONS

هل يمكننا أن ندركَ ونصلُ إلى لحظة " الأصل " ؟!

دراسة في قانون الإيمان المسيحيّ (خالق السماء والأرض) -9

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

“الخلق” ، كلمة نحبّ أن نطلقها على كلّ حقيقة نابعة من مشيئة الله سواء كانت حقيقة وجودنا أو حقيقة ما حولنا . الخلق : لا تشيرُ هذه اللفظة إلى (نقطة الصفر) ، أو إلى الحركة الآولى ، وإذا ما دلّت على أصل زمنيّ سحيق فإنها تعني بالأحرى العلاقة الحاليّة القائمة مع اللامرئيّ ، أي الكائن الذي لا يراه أيّ وجود يشكل العالم كلّه في حقيقته وديناميكيّته . الخليقة موجودة وممنوحة في الواقع لنفسها : ليست الله ، كما أنها ليست جزءًا منه . ولكنها ليست موجودة كولـــد تركه أبوه . ” إذ هو يعطي للجميع حياة ونفسًا وكلّ شيء … في الواقع انه ليس بعيدًا من كلّ واحد منا فإنّا به نحيا ونتحرّك ونوجد ” (أعمال 17 : 25 – 28) .

قبل أن نرى موضوع ” السماء والأرض” ، لنرى أوّلا ، ببعض التوضيحات المهمّة ، ما معنى ” الخلق ” ؟! . فهذه اللفظة ، غالبًا ما ، تضيعُ في متاهات ٍ ومغالطات ٍ وسوء فهم كبير لمؤمنينا أنفسهم . ففي كثير من الأحيان ، يتصوّر البعض أنّ الخلق هو فعل ماضي في الزمن القديم ، خلقَ الله سابقا ودحرَج الكرة من أعلى سفح جبل إلى أسفل وإنتهى الأمر ، وهو فوق يتفرّج علينا من علياء سمائه خليقته ماذا تفعل ! . يقول كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة في الفقرة ( 280) : “الخلق هو أساس جميع تصاميم الله الخلاصيّة ” ، ” بدءُ تاريخ الخلاص ” الذي بلغ ذروته في المسيح . وهنا نجدُ ذكرَ كلمتين مهمّتين ” الخلق والخلاص ” ؛ هذا يذكّرنا بتاريخ الشعب العبرانيّ وخروجه من أرض العبودية لأرض الميعاد (أرض التحرّر) . فهذا الحدث ، هو ، بحدّ ذاته ، خلقٌ ! . إنسحابٌ من المياه وموت ، ثمّ خروجٌ للحياة وخلاصٌ وخلقٌ . تكلّم الآباء أيضا عن الخلق ِ كــ ” إنسحاب ”  ؛ الله يخلقُ بالإنسحاب – عن . وأحد الشعراء قالوا : يخلقُ الله العالم كما تخلقُ البحار القارّات بالإنسحاب ِ عنها . الخلقُ هو خلاص ، لا بل هو تاريخ الخلاص .

ننسى ، غالبًا ما ، أنّ سفر الخروج يسبقُ سفر التكوين من حيث الحدث والتاريخ المعاش . فسفرُ التكوين ( بالأحرى قصّة الخلق ) ، كتبتْ على ضوء تاريخ الحدث الخلاصيّ في سفر الخروج . حدث الخروج هو حدث الخلق الحقيقيّ ، فنحنُ  – يقول اللاهوتيّ فرنسوا فاريون – لا يمكننا أن ندركَ ونصلُ إلى لحظة ” الأصل ” ! .. نحنُ نعيشُ الواقع ، ومن خلال هذا الواقع ، ندركُ رويدًا رويدًا ” أصلنا الحقيقيّ ” .

نؤمن نحن المسيحيّين ، أنّ الله خلق العالم بحسب ” حكمته ” . فالعالم ليس صنعَ إحدى الحتميّات ، صنعَ قدر ٍ أعمى أو صدفة . نحن نؤمنُ أنه يصدرُ عن إرادة حرّة لله الذي أراد أن يُشرك الخلائق في كينونته وحكمته وجودته : ” لأنّك أنت خلقتَ جميع الأشياء ، وبمشيئتك  كانت وخُلِقت ” (رؤ 4 : 11 ) .

الخلق هو البداية التي تتوق  إلى بلوغ كمالها . وكما أنّ الخلق له بدايةٌ ونهاية ، كذلك له محورٌ وهو يسوع المسيح . هذه العقيدة قد أعدّ لها العهد القديم بقوله إنّ الله خلق كلّ شيء بكلمته (تك 1 ) ، والكلمة ، في العهد الجديد ، هو يسوع المسيح ( يوحنا 1) . فإنّ معنى الخلق لم ينكشفُ لنا في نهاية الأمر ، إلاّ في يسوع المسيح . وكذلك نواحي الواقع المظلمة وألغازه كالألم والموت ، لم يتّضح لنا معناها إلاّ بيسوع المسيح . ومن جهة ٍ أخرى ، يمكن للمسيحيّ أن يكتشفَ في واقع الخلق علامات سابقة وعناصرَ من حقيقة المسيح ، ويدرك أنّ يسوع المسيح هو ” خلاصة وملء كلّ شيء ” .

في هذا الزمن المعاصر اليوم يتسائل البابا بنديكتوس السادس عشر: هل مازال هناك معنى للتكلم مجددًا ، في زمن العلم والتقنية ، عن الخلق ؟ وكيف يمكننا فهم ما يسرده سفر التكوين؟

إن الكتاب المقدس لا يريد أن يكون دليلا للعلوم الطبيعة؛ ولكنه يريد أن يُفهمنا الحقيقة الأصيلة والعميقة للأشياء. فالحقيقة الأساسية التي يكشفها سفر التكوين هي أن العالم ليس مجردَ تراكما لطاقات متنافرة فيما بينها ، وإنما يجد أساسه وثباته في اللوجوس ، في حكمة الله الأبدية ، التي لا تزال تحفظ استمرار الكون . هناك تدبير للعالم يتدفق من هذا العقل ، من الروح الخالق . إن الإيمان بأن هذا هو قاعدة كل شيء ، يُنير كل مناحي الوجود ويمنح الشجاعة لمواجهة مغامرة الحياة بثقة وبرجاء . ومن ثمَّ ، يخبرنا الكتاب المقدس أن أصل الحياة ، والعالم ، وأصلنا ليس ثمرة لاعقلانية أو الحاجة ، ولكنه ثمرة عقل ومحبة وحرية . من هذا يتضح الاختيار المزدوج : إما إن تكون الأولوية هي للاعقلانية وللحاجة ، وإما للعقلانية وللحرية وللمحبة . نحن نؤمن بالاختيار الأخير .

يتبع

مراجع هذه الحلقة

1 – المسيحيّة في عقائدها ، أساقفة ألمانيا ، ترجمة المطران سليم بسترس

2 – التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ

3 – الخلق والتطوّر (حوار بين العلم والدين) ،  ترجمه باسيل قوزي ، قدّمه الدكتور الأب يوسف توما

4 – فرح الإيمان بهجة الحياة ، الأب فرنسوا فاريون اليسوعيّ

 

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير