السيّد الرئيس، السيدات والسادة،
مرّة أخرى، واتباعًا لتقليد يُشرّفني، دعا الأمين العام للأمم المتحدة البابا ليوجه كلمة لجمعيّة الأمم الموقَّرة هذه. باسمي وباسم الجماعة الكاثوليكيّة بأسرها، أرغب بأن أُعبّر لكم أيها السيّد بان كي مون عن الامتنان الصادق والقلبيّ؛ كما وأشكركم على كلماتكم اللطيفة. أحيّي أيضًا رؤساء الدول والحكومات الحاضرين، السفراء والدبلوماسيين والموظفين السياسيّين والتقنيّين الذين يرافقونهم وموظفي الأمم المتّحدة الملتزمين في هذه الجلسة السبعين للجمعيّة العامة، وموظفي كلّ برامج ووكالات عائلة منظمة الأمم المتحدة، وجميع الذين بشكل أو بآخر يشاركون في هذا الاجتماع. من خلالكم أحيّي أيضًا جميع الأمم المُمثّلة في هذا اللقاء. شكرًا على جهود الجميع وجهود كل فرد من أجل خير البشريّة.
هذه هي المرة الخامسة التي يزور فيها بابا الأممَ المتحدة. لقد زاروها أسلافي بولس السادس عام 1965، يوحنا بولس الثاني عام 1979، وعام 1995 وسلفي الأخير، البابا الشرفي بندكتس السادس عشر عام 2008. جميع هؤلاء لم يوفّروا عبارات الامتنان للمنظمة، معتبرينها الجواب القانوني والسياسي المناسب للمرحلة التاريخية، المتّسمة بتخطّي المسافات والحدود بفضل التكنولوجيا وبتخطي، كما يبدو، أي حدود طبيعيّة لإثبات السلطة. جواب لا يمكن الاستغناء عنه، بما أن السلطة التكنولوجية، عندما تقع بأيدي إيديولوجيات قوميّة أو كونيّة زائفة، تكون قادرة على التسبب بفظائع رهيبة. لا يمكنني إلا أن أضم صوتي إلى امتنان أسلافي، لأعيد التأكيد على الأهميّة التي تعترف بها الكنيسة الكاثوليكية لهذه المؤسسة والرجاء الذي تضعه في نشاطاتها.
إن تاريخ الجماعة الدوليّة المنَظَّمَة والمُمثلة بالأمم المتحدة التي تحتفل في هذه الأيام بعيدها السبعين، هو تاريخ نجاحات مشتركة مهمة في مرحلة تسارع أحداث غير اعتيادي. لن أدّعي بأن أكون شاملا، لكن يمكن ذكر سَنِّ وتطوّر القانون الدولي، وضع الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، والارتقاء بالقانون الانساني نحو الكمال، حلّ العديد من الصراعات وعمليات السلام والمصالحة، والعديد من الانجازات الأخرى في جميع قطاعات الانعكاسات الدوليّة للنشاطات البشريّة. جميع هذه الإنجازات هي أنوار تواجه ظلمة الفوضى التي تسببها الطموحات الخارجة عن السيطرة والأنانية الجماعية. من المؤكّد أنّه، بالرغم من أن هناك مشاكل خطيرة بدون حلول لكن من الواضح أنه إن غاب كلّ ذاك النشاط الدولي، لكان من الممكن ألا تنجو البشرية من الاستعمال غير المراقب لإمكانياتها. وتُمثّل كلّ من هذه التطوّرات السياسيّة والقانونية والتقنية، مسيرةَ تطبيق لمُثُل الأخوة البشرية، ووسيلة لتحقيقها بشكل أكبر.
لذلك أُشيد بجميع الرجال والنساء الذين خدموا بإخلاص وتضحية، البشريةَ بأسرها خلال هذه السنوات السبعين. بشكل خاص، أريد أن أذكر اليوم جميع الذين بذلوا حياتهم من أجل السلام والمصالحة بين الشعوب، انطلاقًا من داغ هامارسكيولد، وصولاً إلى العديد من الموظفين من مختلف المراتب الذين قُتلوا في المهمّات الإنسانية للسلام والمصالحة.
إن خبرة السنوات السبعين هذه، بغضّ النظر عن كلّ ما تمَّ إنجازه، تُظهر أن الإصلاح والتأقلم مع الأزمنة هما ضروريّان على الدوام، في تقدُّمٍ نحو الهدف النهائي لمنح جميع البلدان، وبدون استثناء، مشاركة ودورًا فعّالًا حقًّا وعادلاً في القرارات. هذه الضرورة إلى مساواةٍ أكبر، تنطبق بشكل خاص على الهيئات التي تتمتّع بقدرات تنفيذيّة فعليّة، كمجلس الأمن والمنظمات الماليّة والمجموعات أو الآليات التي أُنشئت خصّيصًا لمواجهة الأزمات الاقتصادية. هذا الأمر سيساعد على الحدّ من جميع أشكال التعدّي أو الاستهلاك لا سيِّما تجاه البلدان النامية. وينبغي على المنظمات المالية الدوليّة السهر على التنمية المستدامة للبلدان كي تتجنّب استعبادها لأنظمة القروض، التي بدل أن تعزّز التطور، تستعبد الشعوب لآليات فقرٍ وتهميشٍ وتبعيّةٍ أكبر.
إن مهمّة الأمم المتحدة، وبدءًا من المفاهيم الواردة في الديباجة والمواد الأولى لميثاقها التأسيسي، يمكن رؤيتها كتطوّر وتعزيز لسيادة القانون، علمًا بأن العدالة هي شرط أساسي لتحقيق مثال الأخوّة الشاملة. ومن المناسب التذكير في هذا الإطار، بأن الحدّ من السلطة هو فكرة مُستترة في مبدأ القانون. أن نعطي كلّ فرد ما هو له، بحسب التعريف التقليدي للعدالة، يعني بأنه ما من فرد أو مجموعة بشريّة يمكن اعتبارها كلّية القدرة ويُسمح لها أن تدوس كرامة وحقوق الأشخاص الآخرين أو المجموعات الاجتماعيّة. إن توزيع السلطة (السياسيّة والاقتصاديّة والعسكرية والتكنولوجية…) بين الأطراف المُتعدِّدة وخلق نظام قانوني لتنظيم المطالبة بالحقوق والمصالح، يحقّق الحدّ من السلطة. أما اليوم، فيقدّم لنا المشهد العالمي، العديد من الحقوق المزيّفة – وفي الوقت عينه – قطاعات شاسعة بدون حماية، ضحايا لممارسة سيّئة للسلطة: البيئة الطبيعية وعالم شاسع من النساء والرجال المهمّشين. قطاعان مُتَّحِدان فيما بينهما حوّلتهما العلاقات السياسية والاقتصادية الشائعة إلى أجزاء هشّة من الواقع. لذا فهو من الضروري التأكيد بقوة على حقوقهم، من خلال تعزيز حماية البيئة ووضع حدٍّ للإقصاء.
ينبغي التأكيد أولاً على وجود “حق واقعي للبيئة” لسبب مزدوج. أولاً
لأننا وككائنات بشريّة نشكِّل جزءًا من البيئة. نعيش في شركة معها، لأن البيئة بحدّ ذاتها تتضمّن حدودًا أخلاقية ينبغي على العمل البشريّ أن يعترف بها وأن يحترمها. إن الإنسان، حتى عندما يملك “قدرات لا سابق لها، تُظهر فرادة تتخطّى الإطار الجسدي والبيولوجي” (كُن مسبّحًا، 81)، وهو في الوقت عينه جزء من هذه البيئة. يملك جسدًا مكوّنًا من عناصر فيزيائية وكيميائية وبيولوجيّة ويمكنه أن يبقى حيًّا ويتطوّر فقط إن كانت البيئة الإيكولوجيّة ملائمة. وبالتالي، إن كلّ أذى ضدّ البيئة هو أذى ضد البشريّة. ثانيًا لأن كل خليقة، ولاسيما الكائنات الحيّة، تحمل قيمة في ذاتها، قيمة وجود وحياة وجمال واعتماد متبادل مع الخلائق الأخرى. ونحن المسيحيّون، بالإضافة إلى الديانات التوحيديّة الأُخرى، نؤمن بأن الكون يأتي من قرار حب للخالق الذي يسمح للإنسان بأن يستعمل الخليقة باحترام من أجل خير أشباهه ومجد الخالق، وإنما بدون أن يسيء استعمالها أو أن يُسمح له بتدميرها. إن البيئة، بالنسبة لجميع المعتقدات الدينية هي خير أساسي (را. المرجع نفسه، 81).
يرتبط سوء استخدام البيئة وتدميرها، في الوقت عينه، بعمليّة تهميش لا يمكن إيقافها. في الواقع، إن الرغبة الأنانية والتي لا تعرف الحدود للسلطة والرفاهية المادية، تقود إلى سوء استعمال الوسائل المادية المتوفّرة كما إلى إقصاء الضعفاء وحاملي الإعاقات لكونهم يملكون قدرات مختلفة (على سبيل المثال المعوّقين)، إما لأنهم لا يملكون المعرفة والأدوات التقنيّة المُناسِبة أو لأنهم يملكون قدرة غير كافية لاتخاذ القرارات السياسيّة. إن الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي هو رفض كامل للأخوّة البشريّة وتعدٍّ خطير للغاية على حقوق الإنسان والبيئة. فالأشد فقرًا هم الذين يتألمون أكثر بسب هذه الاعتداءات لسبب ثلاثيٍّ خطير: يتمُّ إقصاؤهم من قبل المجتمع؛ هم في الوقت عينه مجبرون على العيش على فضلات الآخرين؛ وعليهم أن يعانوا ظُلمًا تبعات سوء استخدام البيئة. هذه الظواهر تُشكّل اليوم “ثقافة الإقصاء” المُنتشرة والمُتجذّرة من غير وعي.
إن مأساوية كل هذا الوضع من الإقصاء وعدم المساواة، مع تبعاته الواضحة، يقودني مع الشعب المسيحي كله وكثيرين آخرين، إلى إدراك مسؤوليتي الكبيرة أيضًا في هذا الصدد، ولذا أرفع صوتي، مع صوت جميع الذين يتطلّعون إلى حلول عاجلة وفعّالة. إن تبنّي “أجندة 2030 للتنمية المستدامة” خلال القمة العالمية التي ستبدأ اليوم، هو علامة رجاء هامة. آمل أيضا أن يتوصل مؤتمر باريس حول التغيير المناخي إلى اتفاقيات جوهرية وفعّالة.
مع ذلك، إن الالتزامات المتّخذة علنًا هي غير كافية حتى عندما تشكل خطوة ضرورية باتجاه حل المشاكل. إن التعريف التقليدي للعدالة والذي أشرت إليه سابقًا يتضمّن كعنصر جوهري إرادة ثابتة ودائمة: “العدل هو الإرادة المستمرة والدائمة في إعطاء كلّ واحد حقّه” (Iustitia est constans et perpetua voluntas ius suum cuique tribuendi). إن العالم يطلب بقوة من جميع الحكام إرادة فعليّة، عمليّة، ثابتة، مكوّنة من خطوات ملموسة وإجراءات فورية للحفاظ على البيئة الطبيعية وتحسينها وللتغلّب بأسرع وقت ممكن على ظاهرة الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، مع تبعاتها الأليمة، من اتّجار بالكائنات البشرية وبالأعضاء والأنسجة البشرية، ومن استغلال جنسيّ للأطفال، ومن عمل استعبادي بما في ذلك الدّعارة، والاتّجار بالمخدّرات والأسلحة، والإرهاب والجريمة الدوليّة المنظمة. ونظرًا للحجم الكبير لهذه الأوضاع وعدد الأرواح البريئة، ينبغي علينا تحاشي كلّ تجربة وقوع في الاسميّة الخطابية ذات المفعول المهدّئ للضّمائر. علينا التنبّه لأن تكون مؤسساتنا فعّالة حقًا في مكافحة جميع هذه الآفات.
يتطلّب تعدّد المشاكل وتعقيدها استخدام وسائل تقنية للقياس، غير أن ذلك يتضمّن خطرًا مزدوجًا: الاقتصار على الممارسة البيروقراطيّة في كتابة لوائح طويلة من النوايا الحسنة -مقاصد، وأهداف ومؤشرات إحصائية- أو الاعتقاد بأن حلاًّ واحدًا نظريًا واستنتاجيًا سيقدّم جوابا على كل التحديات. لا ينبغي أن يغيب عن البال، وفي أية لحظة، أن العمل السياسي والاقتصادي، هو فعّال فقط عندما يُفهم كعمل متعقّل، يقوده مفهوم ثابت للعدالة ويأخذ دائمًا في الاعتبار أنه، قبل وأبعد من الخطط والبرامج، هناك نساء ورجال واقعيون، متساوون مع الحكّام، يعيشون، يكافحون ويعانون، ويجدون أنفسهم مرات كثيرة مجبرين على العيش في فقر، محرومين من أي حق.
وكي يتمكّن هؤلاء الرجال والنساء الواقعيون من التخلّص من الفقر المدقع، ينبغي أن يُتاح لهم أن يكونوا روّادًا جديرين لمصيرهم. إن التنمية البشريّة المتكاملة والممارسة الكاملة للكرامة البشرية لا يمكن فرضهما. إنما ينبغي أن يتم بناؤهما وتحقيقهما من قبل كل واحد، كل عائلة، باتحاد مع باقي الكائنات البشرية وفي علاقة صحيحة مع كل البيئات التي ينمو فيها النشاط الاجتماعي الإنساني؛ الأصدقاء، الجماعات، القرى والبلديات، المدارس، الشركات والنقابات، الأقاليم، الأمم، وما إلى ذلك. إن هذا يفترض ويقتضي الحقّ في التعليم -أيضًا للطفلات (المستبعَدات في بعض الأماكن)- والذي يُضمن بالدرجة الأولى من خلال احترام وتعزيز الحق الأوّلي للعائلات في التربية وحق الكنائس وباقي الهيئات الاجتماعية في أن تدعم وتتعاون مع العائلات في تربية بناتها وأبنائها. إن التربية المفهومة على هذ
ا النحو، هي القاعدة لتحقيق أجندة 2030ولإصلاح البيئة.
في الوقت نفسه، ينبغي على الحكّام أن يفعلوا كلّ ما يمكن كي يتمكّن الجميع من الحصول على الحدّ الأدنى المادّي والروحي لجعل كرامتهم فعليّة ولتكوين وإعالة عائلة، والتي هي الخليّة الأولى لأيّ نمو اجتماعي. وهذا الحدّ الأدنى المطلق، له ثلاثة أسماء على المستوى المادي: مسكن وعمل وأرض؛ وله اسم على المستوى الروحي: حرّية الروح والتي تتضمن الحرّية الدينية، الحقّ في التعليم وباقي الحقوق المدنية.
ولهذه الأسباب جميعًا، فإن المقياس والمؤشر الأكثر سهولة وملاءمة لتحقيق الأجندة الجديدة للتنمية سيكون الحصول الفعلي، العملي والفوري، للجميع، على الخيرات المادية والروحية الضرورية: مسكن خاص، عمل لائق مقابل أجر ملائم، غذاء كاف ومياه الشرب؛ الحرية الدينية، وبشكل عام، حرية الروح والتربية. وفي الوقت نفسه، إن لركائز التنمية البشرية المتكاملة هذه أساس مشترك هو الحق في الحياة، وبمعنى أشمل أيضا، ما يمكن أن نسمّيه الحق في وجود الطبيعة البشرية نفسها.
إن الأزمة الإيكولوجيّة، وإضافة إلى تدمير جزء كبير من التنوّع البيولوجي، قد تعرّض للخطر وجود الجنس البشري. إن العواقب الوخيمة لإدارة سيئة غير مسؤولة للاقتصاد العالمي، يقودها فقط الطمع في الربح والسلطة، ينبغي أن تشكل نداء من أجل تأمل جادّ حول الإنسان: “الإنسان لا يخلق نفسه. إنه روح وإرادة، ولكنه أيضا طبيعة” (بندكتس السادس عشر، خطاب أمام برلمان جمهورية ألمانيا الاتحادية، 22 سبتمبر/أيلول 2011، المذكور في الرسالة العامة كن مسبَّحًا، 6). إن الخليقة تجد نفسها معرّضة للخطر “في كل مرة يكون لنا فيها السلطة النهائية… إن تبديد الخليقة يبدأ عندما لا نعترف بوجود أية سلطة أعلى منّا، بل ولا نرى سوى أنفسنا” ( لقاء مع كهنة أبرشية بولزانو ـ بريسانوني، 6 أغسطس/آب 2008، المذكور في المرجع نفسه). ولهذا، فإن حماية البيئة ومكافحة الإقصاء يتطلبان الاعتراف بشريعة أخلاقية محفورة في الطبيعة البشرية نفسها والتي تتضمّن التمييز الطبيعي بين الرجل والمرأة (را. الرسالة العامة كن مسبَّحًا، 155) والاحترام المطلق للحياة في جميع مراحلها وأبعادها ( را. المرجع نفسه، 123؛ 136).
بدون الاعتراف ببعض الحدود الأخلاقية الطبيعية التي لا يمكن تخطّيها، وبدون التطبيق الفوري لركائز التنمية البشرية المتكاملة هذه، فإن المثال الذي يقتضي على “أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب” (ميثاق الأمم المتحدة، الديباجة) و”أن ندفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، ونرفع مستوى الحياة في جوّ من الحرية أفسح” (المرجع نفسه)، معرّض لخطر أن يصبح سرابًا لا يمكن بلوغه، أو أسوأ أيضًا، كلمات فارغة تُستخدم كذريعة لأي استغلال وفساد، أو لتعزيز استعمار إيديولوجي من خلال فرض نماذج وأنماط حياة غريبة عن هوية الشعوب، وفي نهاية المطاف، غير مسؤولة.
إن الحرب هي إنكار لجميع الحقوق واعتداء مأساوي على البيئة. فإذا أردنا تنمية بشرية حقيقية متكاملة للجميع، لا بد من المضي قدمًا بدون كلل، في الالتزام لتحاشي الحرب بين الأمم وبين الشعوب.
ولذا، ينبغي ضمان سيادة القانون غير القابلة للنقاش واللجوء بلا كلل إلى التفاوض، والمساعي الحميدة والتحكيم، كما يقترح ميثاق الأمم المتحدة، قاعدة قانونية أساسية حقّة. إن خبرة السنوات السبعين لوجود الأمم المتحدة، بشكل عام، ولا سيّما خبرة السنوات الخمس عشرة الأولى من الألفية الثالثة، تُظهران فعالية التطبيق الكامل للقواعد الدولية كما تُظهر لافعالية عدم الامتثال لها. فإذا تم احترام وتطبيق ميثاق الأمم المتحدة بشفافية وصدق، بدون دوافع خفيّة، وكمرجع إلزامي للعدالة، وليس كأداة لإخفاء نوايا غامضة، يتم الحصول على نتائج سلام. وبالعكس، عندما تُعتبر القاعدة مجرّد أداة يتم استخدامها عندما تكون ملائمة، والتهرّب منها عندما لا تكون كذلك، يُفتح “صندوق باندورا[i]” لقوى خارجة عن السيطرة، تسيء على نحو خطير إلى السكان العزّل، وإلى البيئة الثقافية والبيئة البيولوجية أيضًا.
إن الديباجة والفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة يشيران إلى أسس البنية القانونية الدولية: السلام، الحلّ السلمي للاختلافات، ونمو العلاقات الودّية بين الأمم. وما يتعارض بشدة مع هذه التأكيدات وينبذها لجهة تطبيقها، فهو النزعة المتواجدة على الدوام إلى انتشار الأسلحة، لا سيما أسلحة الدمار الشامل كما هي حال الأسلحة النووية. فالخُلقيّة والحقّ اللذين يرتكزان على التهديد بالدمار المتبادل -وإمكانية القضاء على البشرية بأسرها- يتناقضان ويشكلان تزويرًا لبنية الأمم المتّحدة برمّتها التي تتحوّل حينها إلى “أمم متحدة بالخوف وبانعدام الثقة”. لا بد من الالتزام في بناء عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية، مع التطبيق الكامل لمعاهدة منع الانتشار النووي، نصًّا وروحًا، نحو حظر تام لهذه الأدوات.
إن الاتفاق الأخير حول المسألة النووية في منطقة حسّاسة في آسيا والشرق الأوسط، يشكّل إثباتًا لإمكانات الإرادة السياسية الصالحة والقانون، اللذين نُمّيا بصدق وصبر ومثابرة. وإني أعرب عن تمنّياتي كي يدوم هذا الاتفاق ويصير فاعلا ويعطي ثماره المرجوة في إطار التعاون مع كلّ الأطر
اف المعنية.
وفي هذا السياق، لا تنقص الأدلّة الخطيرة للعواقب السلبيّة المترتّبة على التدخّلات السياسيّة والعسكريّة غير المنسّقة بين أعضاء الجماعة الدوليّة. لذا، ومع أني أرغب بألا تكون هناك حاجة لذلك، لا يسعني إلّا أن أجدّد نداءاتي المتكررة فيما يتعلق بالوضع المؤلم في منطقة الشرق الأوسط بأسرها وأفريقيا الشمالية وبلدان أفريقية أخرى حيث المسيحيون، مع مجموعات ثقافية وعرقية أخرى، وأيضا مع ذاك الجزء من أتباع ديانة الأكثرية الذي لا يريد الاستسلام للعنف والجنون، أُجبِروا على أن يصيروا شهودا لتدمير دور العبادة الخاصة بهم وإرثهم الثقافي والديني، وبيوتهم وأملاكهم ووُضعوا أمام الاختيار بين الهروب، أو دفع حياتهم ثمنًا للتمتّع بالخير والسلام، أو الاستعباد.
لا بدّ أن تشكّل هذه الوقائع دعوةً جادّة لفحص الضمير لمن تُلقى على عاتقهم مسؤوليّة إدارة الشؤون الدوليّة. لأن هناك وجوه واقعيّة، لا في حالات الاضطهاد الديني والثقافي وحسب، بل في كل حالات الصراعات، كما هي الحال في أوكرانيا، وسورية، والعراق، وليبيا، وجنوب السودان ومنطقة البحيرات الكبرى، وهذه الوجوه تسبق المصالح الخاصة ولو أنها مشروعة. هناك أشخاص في الحروب والصراعات، هناك أخوتنا وأخواتنا، رجال ونساء، شبان ومسنون، أطفال يبكون، يتألمون ويموتون. كائنات بشرية تتحول إلى مواد يتم إقصاؤها في وقت تقتصر فيه الأمور على تعداد المشاكل والإستراتيجيات والنقاشات.
كما طلبتُ من الأمين العام للأمم المتحدة في رسالتي المؤرخة 9 أغسطس/آب 2014 “إن الفهم البديهي للكرامة البشرية (يُلزم) المجتمع الدولي، لا سيما من خلال قواعد وآليات القانون الدولي، بالقيام بكل ما هو ممكن من أجل وقف ومنع العنف المنهجي ضدّ الأقلّيات العرقيّة والدينيّة” ومن أجل حماية الشعوب البريئة.
أود الإشارة، في هذا السياق، إلى صراع من نوع آخر، قد لا يكون بديهيًا دائما لكنه يحمل معه الموت إلى الملايين من الأشخاص بشكل صامت. كثيرة هي مجتمعاتنا التي تعيش حربًا من نوع آخر عبر ظاهرة الاتّجار بالمخدّرات. إنها حرب “نتحملها” ونواجهها بضعف. والاتجار بالمخدرات يكون بطبيعته مرفقا بالاتجار بالأشخاص، وبتبييض الأموال، وبالاتجار بالأسلحة وباستغلال الأطفال وأشكال أخرى من الفساد. الفساد الذي تغلغل في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والفنية والدينية مولِّدًا، في حالات كثيرة، هيكلية موازية، تعرّض للخطر مصداقية مؤسساتنا.
لقد بدأتُ هذه المداخلة مذكّرا بزيارات أسلافي. وأود الآن أن تكون كلماتي، بنوع خاص، بمثابة تتمّة للكلمات التي ختم فيها بولس السادس الخطاب الذي ألقاه منذ ما يقارب الخمسين سنة، بيد أن قيمتها ما تزال آنية. “لقد آن الأوان لتُفرض وقفة، لحظة من التأمّل ومن إعادة التفكير، لحظة تكاد تكون صلاة: أي التفكير في أصلنا المشترك، في تاريخنا، في مصيرنا المشترك. لم تكن قط ضرورية من قبل … الدعوة إلى الوعي الخلقي للإنسان (لأن) الخطر لا يأتي من التقدّم والعلم: فهما قادران، إذا أُحسن استخدامهما، على حلّ العديد من المشاكل الخطيرة التي تضايق البشرية” (الخطاب إلى ممثلي الدول، 4 أكتوبر/تشرين الأول 1965). كما وأن الإبداع البشري، من بين أمور أخرى، في حال تطبيقه بشكل ملائم، يساعد بلا شك على حلّ التحديات الخطيرة للتدهور الإيكولوجي والإقصاء. أتابعُ بكلمات بولس السادس: “الخطر الحقيقي يكمن في الإنسان، سيّد أدوات ذات قوّة متزايدة قادرة على إحداث الخراب وعلى أسمى الانجازات!” (المرجع نفسه).
على البيت المشترك لجميع البشر أن يقوم دائما على أساس الفهم الصحيح للأخوة الكونية وعلى احترام قدسيّة كلّ حياة بشرية، وكلّ رجل وامرأة؛ والفقراء، والمسنين، والأطفال، والمرضى، والأجنّة، والعاطلين عن العمل، والمتروكين وأولئك الذين يُعتبرون أهلا للإقصاء لأنه يُنظر إليهم على أنهم مجرّد أرقام في هذه الإحصائية أو تلك. كما لا بد أن يُبنى البيت المشترك لجميع البشر أيضًا على أساس فهمما للطبيعة المخلوقة من قدسيّة.
إن هذا الفهم والاحترام يتطلّبان مستوى أعلى من الحكمة، يَقبل البعدَ المتسامي، ويتخلّى عن بناء نخبة كلّية القدرة، ويفهم أن المعنى التام للحياة الفرديّة والجماعيّة يوجد في الخدمة غير الأنانيّة حيال الآخرين وفي الاستخدام الحكيم والمحترِم للخليقة من أجل الخير العام. أكرّر هنا كلمات بولس السادس: “على بنية الحضارة المعاصرة أن ترتكز على مبادئ روحية، لا تكون قادرة على مساندته وحسب بل أيضا على إنارته وإحيائه” (المرجع نفسه).
الغاوتشو مارتن فييرّو، وهو عمل أدبي كلاسيكي في أرضي الأم ينشد: “على الأخوة أن يتّحدوا لأن هذا هو القانون الأول. لتكن لديهم الوحدة الحقيقيّة في أي وقت، لأنهم إذا تقاتلوا فيما بينهم سيفترسهم الغرباء”.
إن العالم المعاصر الذي يبدو مترابطًا، يختبر تفتّتا اجتماعيّا متزايدًا وشديدًا ومستمرًا، يعرّض للخطر “كلّ أسس الحياة الاجتماعية”، ولذا فهو “يؤدي بنا إلى مواجهة بعضنا البعض من أجل الدفاع عن مصالحنا” (الرسالة العامة كُن مُسَبَّحًا، 229).
والزمن الراهن يدعونا إلى تفضيل أعمال بإمكانها أن تولّد ديناميات جديدة في المجتمع وتؤتي ثمارا عبر أحداث تاريخية هامة وإيجابية (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 223).
لا يسعنا أن نقبل بتأجيل “بعض الأجندات” إلى ال
مستقبل. المستقبل يتطلّب منا قرارات هامّة وشاملة إزاء الصراعات العالميّة التي ترفع عدد المهمشين والمعوزين.
إن البنية القضائية الدولية الحميدة لمنظمة الأمم المتحدة وكلّ إنجازاتها، والتي يمكن تحسينها كأي عمل بشري آخر، والتي هي، في الوقت نفسه، ضرورية، يمكن أن تشكّل تعهّدا لمستقبل آمن وسعيد لأجيال الغد. وهذا سيتحقق إذا ما تمكن ممثلو الدول من تحييد المصالح القطاعية والأيديولوجيات والبحث بصدق عن خدمة الخير العام. أسأل الله الكلّي القدرة أن يتحقق ذلك، وأؤكد لكم دعمي وصلاتي ودعم وصلوات جميع مؤمني الكنيسة الكاثوليكية كي تتمكن هذه المؤسسة وكافة الدول الأعضاء وكل واحد من موظفيها من تقديم خدمة فعّالة للبشرية وخدمة تحترم التنوع وتعرف كيف تفعّل ما هو الأفضل لدى كلّ شعب وكلّ مواطن، من أجل الخير العام.
بركة العلي والسلام والازدهار معكم جمعيا ومع شعوبكم كافة. شكرا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2015
[i] صندوق باندورا : هو، في الميثولوجيا الإغريقية، صندوق حُمل بواسطة باندورا يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن.