الكتاب المقدّس يتكلّم عن الخلق ، بخلاف روايات الخلق التي نجدها لدى الأديان السائدة في العصر الذي دُوّن فيه ، والتي تروي صراعًا بين الله وقوى الخواء أو بين إله وآخر ، مع ما نلاقيه من بعض أصداء تلك الروايات . فالله ، بحسب الكتاب المقدّس ، يخلق دونما تعب ، وإن جاز التعبير ، وهو مطلق السيادة . وهو يخلق على غير ما يخلق البشر ، الذين يشترطُ عملُهم مادّة سابقة يقتصرون على تحويلها وإعادة شكلها . أمّا لدى الله فلا وجود لمادّة سابقة . لذلك فالله ليس الإله الوسيط الذي كان يقول عنه بعض الفلاسفة . إنه صنع العالم من مادة سابقة .
للتعبير عن فرادة العمل الإلهيّ في الخلق ، يتكلم الكتاب المقدّس ( 2 مك 7 : 28 ، رو 4 : 17) وتعليم الكنيسة (دنتسنغر 800 ؛ 3025) عن ” الخلق من العدم ” . هذا لا يعني أنّ العدم هو المادّة التي منها صُنع العالم ، وإلا كان العالم نفسه عدمًا . بل يعني ، بالحريّ ، عدم وجود أيّة مادّة سابقة . ومن الناحية الإيجابيّة ، يعني أنّ الله وحده دون سواه ، هو أساس العالم ، وأنّ العالم متعلّقا تعلّقا تامّا بالله ، وأنه يستقي كلّ كيانه من كيان الله .
هناك ، في النظرة المسيحيّة للخلق ، حريّة – نظام – جمال – كيان – استقلال – معنى . الحريّة ، على الرغم ممّا يبدو للكثيرين أنّ العالم هو ثمرة الصدفة ، أو نتيجة قدر غاشم أو أيّة ضرورة من ضرورات الناموس الطبيعيّ ، يعترف الإيمان المسيحيّ بأنّ هذا العالم قد أراده الله ، وخلقه ، وأحبّه ، وثبّته . فهو يصدرُ عن إرادة الله الحرّة ، وعن صلاحه ومحبّته . النظام ، نقرأ بإستمرار : ” قال الله .. فكان .. ” . في سفر الحكمة نقرأ : ” لقد صنعتَ كلّ شيء بكلمتكَ ” (حك 9 : 1 ) . في الخلق بكلمة الله ، نجد الأساس لصدق الخليقة وحقيقة معناها . فبالكلمة يفصل الله بين الكون والخواء ، وبين النور والظلمة ، وبين السماء والأرض . ففي نظر المسيحيّين ، العالمُ ليس تعبيرًا عن قوّة حياة غاشمة خوائيّة ، بل هو منظّم تنظيمًا عقليّا . ” لقد رتّبت كلّ شيء بمقدار وعدد ووزن ” (حك 11 : 20) . الجمال والحُسن ، نقرأ في سفر التكوين ، أنّ الله خلقَ كلّ شيء حسنا . هذا التعبير الذي يؤكّد حُسنَ الأشياء وصلاحَها يعني أنّ كلّ شيء يأتي من صلاح الله ويشاركُ في صلاح الله . وهنا ، قاومت المسيحيّة الغنوصيّة ، وهي إحدى البدع الأكثر إنتشارًا آنذاك ، التي كانت تنبذ العالم الماديّ عادّة إيّاه شرّا ، وترفض إله العهد القديم الخالق . كيان الخلق ، ذكرناه أعلاه في بداية الكلام عن روايات الخلق . إستقلال الخلق ، فالعالم ، لإرتباطه الجذريّ بالله ، هو ” مختلفٌ ” ومتميّز بشكل جوهريّ وغير محدود من الله الذي هو المطلق وغير المرتبط بشيء . لذلك ، وفي إرتباطه الجذريّ هذا ، هو مستقلّ إزاء الله .
في هذا يتكلّم المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن إستقلال العالم في مختلف ميادينه ، على أن يؤخذ هذا الإستقلال بمعناه الصحيح (ك ع 36 ؛ 41 ؛ 56 ؛ 76 ) . وهذا يعني ، أنّ الثقافة والعلم والإقتصاد والسياسة وسائر ميادين العالم تملك إستقلالا نسبيّا خاصّا وحقيقة ً خاصّة ونظامًا خاصّا وتشريعًا خاصّا . ” وعلى الإنسان أن يحترمَ ما في الخليقة من قيمة خاصّة ومن نواميس ؛ فلا يجوز له أن يستعملها على هواه ” . وأخيرًا وليس آخرًا ، يتكلم الإيمان المسيحيّ عن ” معنى الخلق ” ؛ فالله هو غاية الخليقة ، وهي ، حتى في إستقلالها ذاته ، تتوجّه إلى الله لتسبيحه وتمجيده . فالمعنى الأوّل للخلق هو تمجيد الله . لكن ، إن كان المعنى الأوّل هذا هو تمجيد الله ، فليس هناكَ أيّة نظرة ٍ نرجسيّة أنانيّة لكيان الله وكأنه ” يريد لنفسه فقط ” ! . تمجيدُ الله هو تمجيد محبّته . ومجد الله هو ، في الوقت عينه ، خلاصُ الإنسان .
يتبع