متى 24: 23-31)
زمن الصليب ينفتح في وجهه الثاني على نهاية الأزمنة، ومجيء المسيح الثاني بالمجد وما يليه من واقعات جديدة. إنجيل هذا الأحد يواصل خطاب يسوع عن هذا الموضوع في قسمَين: الأوّل يتناول ما سبق مجيئه بالمجد، والثاني ما يرافق مجيئه من علامات.
أولاً: شرح نصّ الانجيل
من إنجيل القديس يوحنا متى 24: 23-31
قالَ الربُّ يَسوع: “إِنْ قَالَ لَكُم أَحَد: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاك! فَلا تُصَدِّقُوا. فَسَوْفَ يَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأَنْبِيَاءُ كَذَبَة، ويَأْتُونَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ وخَوارِق، لِيُضِلُّوا المُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا. هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم!فَإِنْ قَالُوا لَكُم: هَا هُوَ في البَرِّيَّة! فلا تَخْرُجُوا، أَو: هَا هُوَ في دَاخِلِ البَيْت! فَلا تُصَدِّقُوا. فكَمَا أَنَّ البَرْقَ يُومِضُ مِنَ المَشَارِق، ويَسْطَعُ حَتَّى المَغَارِب، هكَذَا يَكُونُ مَجِيءُ ٱبْنِ الإِنْسَان. حَيْثُ تَكُونُ الجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُور. وحَالاً بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّام، أَلشَّمْسُ تُظْلِم، والقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوءَهُ، والنُّجُومُ تَتَسَاقَطُ مِنَ السَّمَاء، وقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع. وحينَئِذٍ تَظْهَرُ في السَّمَاءِ عَلامَةُ ٱبْنِ الإِنْسَان، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّها، وتَرَى ٱبْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم. ويُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ يَنْفُخُونَ في بُوقٍ عَظِيم، فيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَع، مِنْ أَقَاصي السَّمَاوَاتِ إِلى أَقَاصِيهَا”. |
القسم الأوّل: ما يسبق مجيء المسيح بالمجد (الآيات 13-28)
خطاب يسوع يتناول بالحرف والرموز نهاية العالم وحصار الرومان لأورشليم واضطهاد الكنيسة.
1. المسحاء الدجّالون والأنبياء الكذبة يعملون على تضليل حتى المختارين لو قدروا، بالآيات والأعاجيب العظيمة. المسيح بعظم محبّته ينبّهنا عن محاولات التضليل من قِبل المسحاء الدجّالين أي أصحاب الأدلّة والبراهين الكاذبة،والأنبياء الكذبة أي المبشّرين بآيات مضلّلة، وهم يفعلون تظاهرًا ما يفعله المؤمنون بحقّ: يظهرون أتقياء، ويصومون، ويقومون بأعمال الرحمة، ويحافظون على قوانين الكنيسة، ولكن بالظاهر من أجل الخداع والاحتيال، تمامًا كما يفعل إبليس.
2. المختارون هم المؤمنون الراسخون في الإيمان، الذين يضطربون ويقلقون لِما يشاهدون من أعمال التقوى الكاذبة من قِبل إبليس وهؤلاء الدجّالين، وغالبًا ما يستعصي الأمر على إدراكهم البشري، غير أنّهم يبقون ثابتين في إيمانهم. لذلك يقول الربّ: “يعملون على تضليلهم لو قدروا” (راجع الآية 24).
3. ينبّههم الربّ يسوع عن أساليب التضليل:
– يقولون لكم “أنّه في البرية، فلا تخرجوا إلى هناك”،
– أو هو “في المخادع، فلا تصدّقوا” (الآية 26).
فالذي أرهب الملوك والقضاة وبشّر علنًا بكلمة الحق الشعبَ غير المؤمن، كيف يخاف حين يأتي في آخر الأزمنة ليدين الشعوب والأمم، وكيف يختبئ في البرّية؟
والذي يملأ السماء والأرض، ويذلّ المتكبّرين ويرفع المتواضعين، كيف يمكن أن يختبئ في المخادع والبيوت؟
في مجيئه الأوّل أخفى لاهوته في جسد حتى يختبر المؤمنين. ولكن عندما سيأتي ثانية فسيظهر في مجده ليكافئ إيمانهم.
كان التفتيش عنه ضروريًّا في مجيئه الأوّل، أمّا في مجيئه الثاني، فلا نطلبه لنؤمن به. بل هو سيدعو إليه الذين آمنوا به.
4. لهذا التعبير الحرفي مدلول روحي هو أنّنا نجد المسيح في الكتب المقدّسة، لا في أقاويل الناس وآرائهم وإيديولوجياتهم، وهم الذين يحقّرون المسيح وتعليمه، ويحطّون من شأنه ويجعلونه من مصاف الضعفاء. فالتنبيه يدعونا لكينظلّ صامدين في إيماننا، في حياتنا اليومية، بحيث يبقى المسيح الإله المتجسّدالذي يسير معنا في دروب الحياة، ليسمو بنا إلى القمم الروحية، ويرفعنا من مستنقعات المادّية والاستهلاكية واللاأخلاقية والتكبّر على الله والإنجيل والكنيسة، ويرفعنا إلى سموّ التواضع في بساطة الحياة والتجرّد والافتقار الدائم إلى الله.
5. ثمّ يتكلّم الربّ يسوع صريحًا عن مجيئه الثاني، فيشبّهه بلمعان البرق: “مجيء ابن الإنسان يكون مثل البرق يلمع من المشرق ويضيء في المغرب” (الآية 27). إنه مجيء مفاجئ لكنه أكيد. أما بالتعبير المجازي فالمشرق يعني الشريعة التي أعلنها الأنبياء وتختصّ بالمسيح الآتي، والمغرب يعني البلوغ إلى نهايتها التي هي المسيح، ابن الله الذي تأنّس. البرق ه
و برق الحقيقة التي لمعت، يسوع المسيح الذي هو في لمعان دائم لكل انسان. هكذا وصف الربّ يسوع مجيئه الثاني.
لكن هذا الوصف يطبَّق أيضًا على مجيئه في حياتنا اليومية. فهو يلمع بنور الحقيقة: نور شخصه وتعليمه وآياته، وتعليم الكنيسة، وإلهامات الروح القدس، فينير كلّ إنسان في بحثه عن الحقيقة، وفي سعيه إلى الخير والعدل والسلام. إنّ نور المسيح يضيء على جميع واقعات حياة الإنسان وكلّ البشر، مثل نور الشمس.من دون نور المسيح، لا يمكن الولوج إلى عمق أسرار الحياة البشرية والتاريخ، والى سرّ الحياة والموت، الخير والشّر، ومعنى الوجود، وإلّا تبقى ألغازًا تعذِّب الإنسان. نور المسيح يساعدنا جميعًا على قراءة علامات الأزمنة.
5. “حيث تكونُ الجثّة، هناك تجتمع النسور” (الآية 28). استعمل يسوع هذا التشبيه ليبيِّن أنّ عند ظهور المسيح بالمجد، كلّ الذين سلكوا في البرّ هم كالنسور يحلِّقون إلى السماء. فيقال إنّ النسور تستروح الجيفة عن بعد، من وراء البحار. بالمعنى المجازي نقول مع القدّيس إيرونيموس: إن كانت هذه المخلوقات غير العاقلة قادرة على اكتشاف الأجسام الصغيرة، وتفصلها عنها مسافات شاسعة من يابسة وبحر، فكم بالحري ينبغي لنا نحن المؤمنين أن نعرف المسيح الذي يأتي بهاؤه من المشرق ويسطع حتى المغرب.
6. وبالمعنى المجازي “الجثّة” وهي الجسد المائت، وترمز إلى آلام المسيح، الحمل الذي سيق إلى الذبح” (اشعيا 53: 7). عند مجيئه الثاني، كما في مجيئه اليومي في سرّ القربان، يجتمع القديسون كالنسور حول مذبحه ويرتفعون بذبيحته إلى عرش الحمل المذبوح في السماء. فالنسور يمثّلون القدِّيسين الذين حلّقوا بفضائلهم وقداسة حياتهم إلى أعالي السماء. نقرأ في كتاب المزامير: “القديسون يتجدّد شبابهم كالنسور” (مز 103 (102)، 5). فلا بدّ عند الاحتفال بالذبيحة القربانية من التخشّع مدركين حضور القدّيسين حول المذبح، فنضمّ قرابين أعمالنا الصالحة إلى القربان الإلهي، ونسمو معهم إلى قمم الروح بالفضائل الإلهية والإنسانية.
القسم الثاني : ما يرافق مجيء المسيح وعلاماته (متى 24: 29-31)
يتكلّم الربّ يسوع في هذا النصّ عن علامات حسّية لنهاية الأزمنة، وعن مجيئه الثاني بالمجد، وعن آلام الأشرار، وسعادة الأبرار.
1. “الشمسُ تظلم، القمر لا يعطي ضوءَه، النجومُ تتساقط، قوّات السماءِ تتزعزع”(الآية 29).
هذا وصف لنهاية العالم المخلوق الذي يتزعزع أمام مجد المسيح الملك الآتي بالمجد ليجدّد كلّ شيء. الخليقة كلّها تتحوّل إلى نظام جديد. يتفكّك كلّ شيء عتيق، لأنّه تَشوّه بالاضطهادات المشينة بحقّ المؤمنين، وبجرائم الأشرار الشنيعة. الله يُظهر غضبه عليها: فيوم الظلمة هو يوم الموت، الذي من بعده يولد يوم جديد هو يوم الصلاح المطلق. في ظلمة تفكّك عناصر الطبيعة يتذوّق الأشرار طعم الظلمة الشيطانية.
2. “في ذلك الحين تظهر علامة ابن الإنسان في السماء” (الآية 30). العلامة هي الصليب الذي سيسطع أكثر من الشمس، فيما الشمس الطبيعية تطلع وتحتجب. وهكذا تظهر قدرة الصليب ويخزى الذين يستهزؤن به وبقدرته. وهكذا يأتي ابن الإنسان إلى كرسي الدينونة بعزّة وجلال، عارضًا عار موته وجراحه.
3. “حينئذٍ ينتحب جميع قبائل الأرض” (الآية 30): سينتحب اليهود لأنّهم سيرون حيًّا ومحييًا مَن ظنّوه ميتًا، وسيُدانون بجراح جسده. وسينتحب الوثنيون، لأنّهم خُدعوا بحجج الفلاسفة الباطلة التي زيّنت لهم أن عبادة إله مصلوب هي حماقة.وسينتحب المسيحيون الخاطئون الذين أحبّوا العالم أكثر ممّا أحبّوا المسيح.وسينتحب أهل البدع لأنّهم ادّعوا إن مَن صُلب كان مجرّد إنسان، فيما يرون الذي طعنه اليهود آتيًا كديّان.
4. أمّا المختارون فسيجمعهم مع ملائكته من أقصى السماوات إلى أقصاها” (الآية 34).
هؤلاء الذين عاشوا باستقامة وكمال الفضائل، واحسنوا التعامل مع الآخرين، يجمعهم من كلّ مكان ويرفعهم إلى أعالي السماوات بعد حياتهم النموذجية على الأرض، وفقًا لتعليم الكتب المقدّسة المرموز إليها بالسماوات (راجع التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدّس، إنجيل متى 14-28).
ثانيًا، شهر تشرين الأوّل المخصّص لمسبحة العذراء
نرفع صلاة المسبحة إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سلطانة الوردية المقدّسة، من أجل نيّتَين عزيزتَين على قلبها، طلبتهما في كلّ مرّة كانت تظهر، مثلًا في ظهورات لورد، وظهورات فاطيما. وهي: ارتداد الخطأة إلى التوبة وخلاصهم من نار جهنّم ومن الهلاك الأبدي، ونهاية الحروب حيث هي مشتعلة.
نخصّص هذا الشهر للتأمّل في ألقاب العذراء مريم التي نتلوها في طلبتها:
1. يا قديسة مريم
مريم هي المرأة التي اختارها الله في سرّ تدبيره لتكون أمًّا للفادي الإلهي، مخلّص العالم، وهو الكلمة الإلهي، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الذي سيأخذ منها جسدًا بشريًّا، ليحقّق الفداء والخلاص. فعصمها منذ اللَّحظة الأولى للحبل بها من الخطيئة الأصلية، وملأها نعمة، وبقوّة النعمة عصمت نفسها من كلّ خطيئة شخصية.
2. يا والدة الله
مريم الكلّية القداسة هي “والدة الل
ه”. هذا اللقب حقيقة إيمانية أعلنها مجمع أفسس سنة 431. ونشرها ودافع عنها بشكل خاصّ القديس كيرللس الاسكندري، واعتنقها تلامذة القديس مارون، وأصبحت جزءًا أساسيًّا في ليتورجيَّتنا المارونية، ونشيد الموارنة حيثما وُجدوا، الذي مطلعه: “يا أمّ الله، يا حنونة، يا كنز الرحمة والمعونة…” هذه العقيدة هي في أساس إيماننا المسيحي الذي يرتكز على أن مريم هي أمّ الله، وأنّ الكلمة الإلهي صار بشرًا، آخذًا جسدًا منها.
3. يا عذرا العذارى
مريم هي العذراء بامتياز لأنّها دائمة البتولية. حبلت بيسوع، ابن الله بقوّة الروح القدس الذي غمرها بظلّه، كشعاع من النور يجتاز إناء بلّور صافٍ، ليغنيه بلونه الباهر. فجعل فيها جسد المسيح المقدّس بالتكامل مع جوهرها الطاهر. ولدته وظلّت بتولًا، وكرّست بتوليّتها لله. لقد أعلنت الكنيسة بتوليّة مريم الدائمة عقيدة إيمانية.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت تكشف لنا حقيقة نهاية الأزمنة، ومجيئك الثاني بالمجد لتدين كلّ إنسان وجميع الشعوب، لكي تفتح أمامنا الغاية المنشودة من حياتنا على الأرض. وهي السير نحو الوطن السماوي. هبنا نعمة السير الدائم نحو الله، باكتساب الفضائل وتقديس الذات بالنعمة الإلهية وحسن التعامل مع جميع الناس على قاعدة الحقيقة والمحبة، والخير والعدل. وبنعمتك وتجاوبنا اليومي معها نكون من عداد مختاريك.
ويا مريم، أمّنا، قودي خطواتنا في طريق القداسة، وقبول الكلمة الإلهية نورًا لعقولنا، وقوّة هادية لإراداتنا، ومحبة دائمة لقلوبنا، واجذبينا ببتوليتك الدائمة إلى قمم النقاوة والطهارة. فيرتفع من أعماق نفوسنا نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.