يعلمنا أندريه لوف، وهو راهب روحاني شهير من القسم الثاني من القرن الماضي، بأن إرادة الله بشأن الإنسان تنبع من حبه له. “رغبة” (thélema) الله بشأن الإنسان تنبع من إرادته المُحِبَّة التي يريد من خلالها خير الإنسان، ويريد أن يوصله إلى ملء حياته بشكل فريد لا يتكرر. هذه الفرادة تنبع من فرادة حب الله لكل إنسان. وعليه فليست المسألة مسألة إرادة الله بشأن الإنسان، بل إرادة الله لأجل الإنسان. والفرق كبير: فالله ليس بحاجة لأي شيء مني، أنا بحاجة إليه واختياره لي هو نعمة لي، لا خدمة له.
وقد أدركت القديسة تريزا الطفل يسوع تطابق إرادة الله وكمال حياتنا البشرية حين كتبت: “أريد أن أحقق بالكامل إرادتك وأن أصل إلى ملء القداسة الذي أعددته أنت لي في ملكوتك؛ بكلمة أريد أن أضحي قديسة”[1]. يعلّق فون بالتازار على هذا النص فيقول: “إن ملء ’الإرادة الإلهية‘ ليس تطبيق هذا المبدأ العام أو ذلك، وليس تحقيق مشروع فردي – مثل طفل ينسخ رسمة معروضة أمامه – بل هو التحقيق الحر لمشروع حب ابتكره الله، آخذًا بعين الاعتبار الحرية، لا بل يعطيها: فما من أحد يضحي ذاته بقدر القديس الذي يطيع مشروع الله ويطابق كل كيانه، جسدًا، نفسًا وروحًا لمشروع الله”[2].
إذا كان الأمر كذلك، يبدو منطقيًا التساؤل: أين المشكلة وأين الصعوبة؟ فإذا كانت إرادة الله تطابق رغباتنا العميقة، يجب أن يكون الأمر سهلا… المشكلة الأساسية هي أن هناك غموض في كياننا بسبب انغلاقنا وقلة ثقتنا وهذه العناصر تعرقل مسيرة إيماننا. بسبب الشكوك التي تراودنا والتي يزرعها الشرير في أذهاننا، نجد صعوبة في التعرف على إرادة الله وفي الاعتراف بطيبتها وصلاحها في حياتنا. وهنا بالتحديد تمكن الصعوبة الأساسية في مسيرة التمييز الروحي. فالمسألة ليست متعلقة فقط في معرفة إرادة الله، بل أيضًا في أن نعترف بكل قناعتنا بأن هذه الإرادة هي خيرنا الأسمى، حتى عندما لا نراه ولا ندركه. القديسون هم أولئك الأشخاص الذين يقتربون من هذا الاعتراف ويوقنون بالعمق بأن الله يريد خيرهم الأسمى وبأن خيرهم الأسمى هو إرادة الله.
مسيرة التمييز الروحي تمر من خلال الصراع والاتزان الروحي اللذين يزيلان الأقنعة عن أوثاننا ويكشفان الستار عن رغباتنا الاصطناعية التي ليست وليدة قلوبنا بل وليدة تأثيرات خارجية. عمل التطهير هذا يحملنا إلى اكتشاف الرغبة الإلهية الكامنة في إنسانيتنا. واكتشاف هذه الرغبة الإلهية تطابق اكتشاف إرادة الله بشأننا، لأنهما الأمر عينه. ويعلمنا آباء الصحراء أن إحدى السبل لتحرير رغبتنا الحقة هو التخلي عن الإرادة الذاتية الأنانية[3].
مسيرة تمييز إرادة الله، إذاً، تبدأ بمرحلة تطهير إرادتنا ورغباتنا من العوائق والأشواك التي تخلّ بتمييزنا. هي مرحلة تشبه فترة خدمة يوحنا المعمدان الذي يعد السبيل للرب ويجعل سبله سوية (راجع مت 3، 3). هذه المرحلة هي أساسية في مسيرة القداسة لأنها تعيد لحمة الرباط بيننا وبين هويتنا العميقة.
يعلّم القديس اغناطيوس دي لويولا أنه يجب أن نصلي لكي نحصل على عدم الانحياز، وعندما نحصل على عدم الانحياز فما يميل إليه قلبنا بعد ذلك هو إرادة الرب. فإرادة الرب ليست الأصعب أو الأسهل من غيرها. إرادة الله هي الأكمل، هي السبيل الأمثل وسبيل الفرح الحق.
(يتبع)
[1] Teresa del Bambino Gesù, Opere complete, Libreria Editrice Vaticana – Edizioni OCD, Città del Vaticano – Roma, 1997, 942.
[2] H.U. von Balthasar, Sorelle nello Spirito. Teresa di Lisieux. Elisabetta di Digione, Jacabook, Milano 19913, 24-25.
[3] A. Louf, Generati dallo Spirito. L’accompagnamento spirituale oggi, Qiqajon, Magnano 1994, 170.