إنجيل هذا الأحد لا يروي ظهورًا ليسوع بعد قيامته، بل يهيء لسرّه الفصحي:لموته تكفيرًا عن خطايا الجنس البشري وغفرانها بنعمة الفداء، ولقيامتهتبريرًا لجميع الناس بإشراكهم في حياته الإلهية بنعمة الخلاص. ويسمّي سرّه الخلاصي هذا “مجده ومجد الأب”. ويترك للكنيسة وللبشرية المفتداة وصيته الأخيرة: “أن نحب بعضنا بعضًا، كما هو أحبّنا”. ويقرأ هذا الانجيل استعدادًا لعيد صعود الرب إلى السماء، الذي تحتفل به الكنيسة الخميس المقبل.
أوّلاً،شرحنصالإنجيل
منإنجيلالقديسيوحنا 13: 31-35
قالَ يُوحنَّا الرَسُول: لَمَّا خَرَجَ يَهُوذا الإسخريُوطِيُّ قَالَ يَسُوع: «أَلآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ الله فِيه. إِنْ كَانَ الله قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَالله سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ. يَاأَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونَنِي، ولكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ الآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا. وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم. بِهذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض». |
1. كلام الرب في إنجيل اليوم جاء بعد عشاء يسوع الأخير مع رسله الاثني عشر، وغسل أرجلهم، وإعلانه بأن واحدًا منهم سيسلمه. ثمّ ناول اللقمة يهوذا الاسخريوطي، فأكلها وداخله الشيطان وللحال خرج ليسلمه (راجع يو 13: 21-30).
عندها قال الرب يسوع: “الآن تمجّد ابن الانسان، وتمجّد الله به” (الآية31 ). الله تمجّد بابنه المتجسّد لأنه بلغ إلى مرحلة تحقيق تصميم الفداء والخلاص بموته وقيامته. والله مجّد ابنه بدوره بقيامته من بين الأموات، وبصعوده إلى مجد السماء.
أنبأ يسوع تلاميذه عن رحيله عنهم عمّا قليل بموته الذي اقترب، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، حيث لا يمكنهم الذهاب (راجع الآية 23).
2. تمجّد جسد يسوع من لحظة قيامته، كما بيّنت خصائصه الجديدة والفائقة الطبيعة التي ظهرت في ترائيه: يدخل البيت والأبواب موصدة. يظهر بوجه انسان غريب، أو كالبستاني. فطيلة الاربعين يومًا قبل صعوده، حجب مجده بمظهر انسان عادي. يوم صعوده، دخلت بشريّته، من دون رجعة، في المجد الالهي، المرموز إليهبالغمامة التي ظللته، كما يروي كتاب أعمال الرسل: “وعلى مرأى من التلاميذ ارتفع وضمّته غمامة، واحتجب عنهم” (أعمال 1: 9).
وفيما يؤكد لوقا أنه: “فيما هو يباركهم، انفصل عنهم، وصعد إلى السماء” (لو 24: 50)، أضاف مرقس: “… وجلس عن يمين الله” (مر 16: 19). هكذا نختصر الحدث التاريخي واللاهوتي في قانون الإيمان: “وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الله الآب القادر على كل شيء”. “الجلوس عن يمين الآب” يكمّل القيامة، ويعني مجد وشرف الالوهة، حيث كان ابن الله المساوي للآب في الجوهر قبل الدهور، وبعد تجسّده وموته وقيامته وصعوده “يجلس” بالجسد البشري الممجّد. ويعني أيضًا تدشين ملكوت المسيح، وقد أعطي السلطان والمجد والقدرة، وإياه تخدم جميع الشعوب والأمم. وملكه لا ينتهي ولا يُهدم (راجع دانيال 7: 14). ومن هذا الوقت أصبح الرسل شهود “ملكوت لا نهاية له” (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 659-664).
3. الذي أتى من عند الآب متجسدًا، هو إياه يرجع إليه ممجّدّا. “لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ ابن الانسان الذي نزل من السماء” (يو 3: 13). بصعوده فتح السماء بوجه البشر. فكان لنا، نحن أعضاء جسده، الرجاء بأننا نلحق به حيث هو. فهو رأسنا الذي سبقنا، كما وعد: “وأنا، إذا رُفعت عن الارض اجتذبت إليّ جميع الناس” (يو 12: 32).
4. “أعطيكم وصية جديدة” (يو 13: 34). إنها وصية المحبة بعضنا بعضًا. هي وصية قديمة أمرت بها الشريعة والتوراة. جديدها أن نحب بعضنا بعضًا كما المسيح أحبنا (الآية 34).
هذه هي شريعة شعب الله الجديد الذي اقتناه الله بدم المسيح، والذي رأسه المسيح نفسه وقد مسحه بمسحة الروح، والذي رسالته أن يكون ملح الارض ونور العالم، وغايته بلوغ ملكوت الله الذي بدأه هو على الارض ويكمّله في مجد السماء (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 782).
وصيته الجديدة هذه تختصر جميع الوصايا الأخرى، وتعبّر عن إرادة الله الذي يريد “أن يبلغ جميع الناس إلى الخلاص ويعرفوا الحقيقة” (1طيم 2: 3-4)، و”ألاّ يهلك أحد” (2بطرس 3: 9).
ولهذا، قال عنها إنها العلامة المميزة والفارقة للمؤمنين بالمسيح: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إذا كان فيكم حبُّ بعضكم لبعض” (يو 13: 35). هكذا تجلّت الجماعة المسيحية الأولى التي عرفت “بقلب واحد ونفس واحدة” (أعمال 4: 32). وكان الذين يرونهم يقولون: “انظروا كم يحبّون بعضُهم بعضًا!”.
* * *
ثانيًا،الارشاد الرسولي “فرح الحب”
نتناول من هذا الارشاد الرسولي الذي أصدره قداسة البابا فرنسيس “حول الحب في العائلة”، موضوع “روحانية الحياة الزوجية والعائلية” (الفصل التاسع).
1. برفع الزواج إلى سرّ مقدس، أراد الرب يسوع أن يجعل من الحياة الزوجية هيكلاً يتواجد فيه الثالوث القدوس، ويتمجّد في أصالة الحب الزوجي، وصدقه وتجسيده بأفعال حقيقية وواقعية غير خفية عن الله الذي لا يسكن بفرحه وسلامه سوى في القلوب المحبة حقًا (الفقرتان 314-315).
2. المظهر الثاني من الروحانية الزوجية هو الشركة العائلية التي عندما تُعاش حسنًا تصبح طريقًا حقيقيًا إلى تقديس الذات في الحياة العادية، وإلى النمو بالروح، كما تصبح وسيلة للاتحاد العميق بالله. فمقتضيات الأخوّة والحياة العائلية تشكل مناسبة لفتح القلب أكثر فأكثر. وهذا يوفّر امكانية اللقاء بالرب بالشكل الأكمل والأعمق.
هذا ما يؤكده يوحنا الرسول الذي يكتب: “من يبغض أخاه هو في الظلمة، ويمشي في الظلمة” (1يو 2: 11)، و”يمكث في الموت” (1يو 3: 4). و”لم يعرف الله” (1يو 4: 8). كتب البابا بندكتوس السادس عشر: “من يغمض عينه عن قريبه، يصبح أعمى كذلك أمام الله” (الله محبة، 16)؛ وأيضًا: “الحب هو النور الوحيد الذي ينير دونما انقطاع ومن جديد عالمًا هو في الظلمة” (المرجع نفسه، الفقرة 39). ومع يوحنا الرسول من جديد: “فقط إذا أحببنا بعضنا بعضًا، يسكن الله فينا، وتكتمل المحبة فينا (1يو 4: 12).
بما أن الشخص البشري يحمل، بحكم تكوينه الطبيعي، بعدًا اجتماعيًا، وبما أن التعبير الأول والأصلي عن هذا البُعد الاجتماعي هو في الزوجين والعائلة، فالروحانية تتحقق فعليًا في الشركة العائلية. من هذا المنظار تشكّل العائلة طريقًا اختاره الله ليكي يقود إلى قمم الاتحاد السرّي به (الفقرة 316).
3. المصدر الثالث للروحانية الزوجية والعائلية هو المشاركة في حمل صليب المسيح التي يعيشها الزوجان والعائلة معًا بتحمل الآلام والهموم، وبها يتمكنون من مواجهة أصعب الظروف. تبلغ العائلات شيئًا فشيئًا، بنعمة الروح القدس، قداستها عبر الحياة الزوجية، من خلال المشاركة في صليب المسيح الذي يحوّل الصعوبات والآلام إلى قربان حبّ.
ومن جهة ثانية، أوقات الفرح والراحة والعيد والعلاقة الزوجية تُعاش كمشاركة في ملء حياة قيامة الرب، وكاختبار سرّي لحضور المسيح القائم في حياة الزوجين (الفقرة 317).
4. المصدر الرابع هو الصلاة في العائلة، كوسيلة مميّزة للتعبير عن هذا الايمان الفصحي وتقويته. من الضرورة أن يجد الزوجان والعائلة بعض الدقائق كل يوم للصلاة معًا أمام الله، والاعراب له عن همومهم وحاجات العائلة، وطلب المساعدة لمن يعيش ظرفًا صعبًا، والتماس حماية العذراء مريم بوشاح الأم.
تشكّل التقوى الشعبية بمختلف تعابيرها كنزًا لروحانية العديد من العائلات. أما طريق الصلاة معًا فيبلغ ذروته في المشاركة معًا في سرّ الافخارستيا، ولاسيما في يوم الرب. إن يسوع يقرع باب العائلة لكي يدخل ويتقاسم معها مائدة الافخارستيا (راجع رؤيا 3: 20). في هذا السرّ يجدّد الزوجان العهد الفصحي، عهد الحب الذي جمعهما، والذي يعكس العهد الذي قطعه الله مع البشرية بصليب المسيح ابنه. يوجد رباط عميق بين الحياة الزوجية وسرّ القربان. الغذاء القرباني قوة ودافع لكي يعيش الزوجان كل يوم العهد الزوجي ككنيسة بيتية (الفقرة 319).
* * *
صلاة
أيهاالرب يسوع، بصعودك إلى السماء لم تغادر أرضنا وانت حاضر فيها إلى الأبد، كما أنك عندما تجسّدت على أرضنا لم تغادر سماءك وحياتك الثالوثية. يا له من سرّ ايماني عجيب! بصعودك أيها المسيح، أدخلت طبيعتك البشرية إلى مجد الالوهية، وبذلك رفعت طبيعة البشر إلى سموّ الحياة الإلهية، ودعوتنا لنعيش في هذه الدنيا، وقبلة أنظارنا إليك، إلى حيث تدعونا لنكون. ورسمت لنا الطريق بالوصية الجديدة التي تركتها لنا، طريق محبة بعضنا بعضًا كما أنت أحببتنا. أفض روحك القدوس على الأزواج والعائلات، لكي تقودهم الحياة الزوجية والعائلية إلى ينابيع حياة الروح، مصدر فرحهم وعزائهم وسعادتهم.
ونحن معهم نرفع نشيد المجد والتسبيح للآبوالابنوالروحالقدس،الآنوإلىالأبد،آمين.