كثيراً ما تم الإشارة للقادة بأنهم أولئك الأشخاص الذين يمتلكون مواهب خاصة، شخصية قوية وأفكار ملهمة، جعلتهم يمتلكون القدرة على ممارسة درجة عالية من السيطرة أو التأثير على الآخرين، وقد كانت عملية القيادة عملية صعبة على الدوام، تحتاج إلى قوة جبارة لممارستها بتواضع، ومقدرة على تحقيق التوازن بين القلب والعقل، إذاً فما الذي يميز قائداً عن سواه؟
سواء أكنت كاثوليكياً أم لا، لا بد أنك تدرك أن البابا فرنسيس ومنذ توليه منصب البابوية منذ أربع سنوات كان القائد الاستثنائي بكل المقاييس، في الواقع أنه كان القائد المثال والنموذج الذي يُحتذى به، وأعتقد أن تأثيره الملفت كقائد لم يأتي من صفاته الشخصية فحسب، وإنما من الأسلوب الذي مارس به هذه العملية منذ توليه، والذي جعل منها عملية فعالة جداً، فحمل هذا الأسلوب بين طياته الكثير من الدروس التي يمكن للقادة على اختلافهم التعلم منها.
وهنا نذكر خمسة دروس يمكن استخلاصها من كتاب “أعجوبة فرنسيس: نظرة في داخل تحول البابا والكنيسة” للخبير في شؤون الفاتيكان والكنيسة جون آلن:
- قدّم مثالاً:
كان الإصلاح المالي على رأس أولويات البابا الذي اختار اسم القديس فرنسيس الأسيزي اسماً له وهو من كرس حياته خدمةً للفقراء، فوضع الشؤون المالية في الفاتيكان نصب عينيه، حيث كانت تشكل مصدر قلق على الدوام وجلبت معها العديد من المشاكل كان أبرزها: الفساد، الامتيازات الكهنوتية المبالغ فيها وعدم الاكتراث بالفقراء.
اليوم، وضمن خطة عمل جريئة جعل البابا فرنسيس الفاتيكان مثالاً عالمياً يحتذى به في مجال إدارة الشؤون المالية، وهو ما لم يعتبره يوماً غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لقيادة الكنيسة على كافة المستويات من أجل الخروج بعمل لا تمسه شائبة.
- استخدم الأشخاص على أساس الكفاءة:
لم يكن الكاردينال الأسترالي جورج بيل مرشحاً لقيادة الإصلاحات المالية التي كان ينشدها البابا فرنسيس، حيث بدت شخصيته مختلفة عن شخصية البابا التي اتسمت بالوداعة، فكان محافظاً متشدداً، ولم يكن سعيداً عند اختيار البابا، إذ كان متوجساً من أن فرنسيس سوف يقود الفاتيكان في منحدر تحرري.
غير أن البابا استمع إلى اعتراضات بيل إزاء الوضع المالي للكنيسة، مُدركاً أن أسلوبه المتشدد سوف يكون فعالاً لدفع الإصلاحات إلى الأمام، وفي اجتماع عُقد في شهر آذار 2014 طلب فرنسيس من بيل أن يكون كبير مستشاري الشؤون المالية في الفاتيكان.
- خذ النصيحة على محمل الجد:
منذ البداية أظهر البابا رغبةً في الاستماع إلى من حوله، وكخطوة أولى بعد انتخابه حبراً أعظم أسس مجلساً استشارياً مكوناً من الكرادلة يضم ثمانية أعضاء من مختلف أنحاء العالم، يحملون وجهات نظر متنوعة، ومنذ ذلك الحين قدمت له هذه المجموعة نصائح حول كل من خطواته الرئيسية، التي وصفها آلن في كتابه “بالقوة صاحبة القرار الأقوى في الفاتيكان”.
وفي الوقت نفسه، أولى البابا فرنسيس أهمية لسينودس الأساقفة، وهو عبارة عن مجموعة من المستشارين كان البابا يوحنا بولس الثاني ينضم إليهم من حين لآخر، بالمقابل حضر البابا فرنسيس أحد الاجتماعات بالكامل وشارك في النقاش دون علم مسبق بقدومه، وشدد على السينودس الاستثنائي الذي عقده لمناقشة قضايا عائلية كالطلاق والزواج.
- كن على استعداد أيضاً لتجاهل النصيحة:
كان البابا على استعداد للعمل بمفرده أيضاً، ليتأكد أن أجندة عمله تسير إلى الأمام، كما حدث عند تعيين المونسينور غالانتينو أميناً عاماً لمجمع الأساقفة الذي عُقد في إيطاليا في كانون أول 2013، حيث اشتهر غالانتينو بالتواضع غير أنه لم يكن يحظى بشعبية لدى الإكليروس الإيطالي، وعندما طلب البابا أسماء مقترحة لشغل منصب سكرتير مجمّع الأساقفة الإيطاليين، قدم حوالي خمسمائة كاهن توصياتهم، فيما تلقى غالانتينو هزّة رأس واحدة وقد اختاره البابا بالفعل.
- كن سهل الوصول والتواصل:
باعتبار البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية فإن لديه الكثير من الهموم لمعالجتها داخلياً، إضافةً لقرابة1.1 مليار كاثوليكي بذل جهوداً جبارة للتواصل معهم.
وليس هناك مثال أفضل من اتصاله مع أناس لم يتوقعوا ذلك مسبقاً في العالم أجمع، كالاتصال الذي أجراه مع ميشيل فيري وهو أخل عامل في محطة غاز عمره 14 عاماً، الذي قُتل أثناء حادث سطو مسلح، واتصال أخر كان مع امرأة إيطاليه كانت قد ناشدته في رسالة لمساعدتها في حل لغز جريمة قتل ابنتها، وغيرها الكثير من الأمثلة التي لم تسجلها وسائل الإعلام، وفي إحداها اتصل البابا نفسه -حيث لا يطلب من أي شخص أخر القيام بهذا الأمر نيابة عنه- بدير تابع لراهبات الكرمل في إسبانيا ليتمنى لهن سنة جديدة سعيدة، وعندما لم يقمنّ بالرد على المكالمة قام بترك رسالة قصيرة لهن يتساءل فيها بروح الدعابة: “ماذا يفعلن الراهبات يا ترى حتى لم يستطعن الرد؟” وفي وقت لاحق قام بمعاودة الاتصال بهن، وفي هذه المرة تجمعت الراهبات حول الهاتف للتحدث إلى البابا عبر مكبر الصوت.
في الختام فإن البابا فرنسيس يمثل نموذجاً للقيادة “الكاريزمية”، وهو يعلم أن هذه الكاريزما هي هبة من الخالق، ولذلك فهو يضعها في خدمة الآخرين، إنه يعطي للقادة رسالة قوية في الإيجابية والبساطة، فهو القائد القريب من الناس، الذي نرغب أن يتمثل به قادتنا، إنه النموذج الفعال الذي يُعلم القادة عن طريق القدوة الشخصية.