أيها الشباب الأعزاء،
ها نحن مجدّدا في مسيرة بعد لقائنا الرائع في مدينة كراكوف، حيث احتفلنا معًا باليوم العالميّ للشبيبة الواحد والثلاثين كما وبيوبيل الشبيبة، في إطار السنة المقدّسة للرحمة. وقد أرشدنا القديس يوحنا بولس الثاني والقديسة فوسطينا، رسولا الرحمة الإلهية، كي نعطي أجوبة ملموسة لتحدّيات عصرنا. وعشنا خبرة قويّة من الأخوّة والفرح، وقدّمنا للعالم علامة رجاء؛ فلم تكن الأعلام واللغات المختلفة سبب خلاف وانقسام، إنما فرصة لفتح أبواب القلوب، كي نبني الجسور.
وقد حدّدتُ في نهاية اليوم العالميّ للشبيبة وجهةَ حجّنا المقبل الذي، بمعونة الله، سوف يقودنا إلى باناما في سنة 2019. سوف ترافقنا العذراء مريم في هذه المسيرة، هي التي تطوّبها جميع الأجيال (را. لو 1، 499). يرتبط اتجاه مسيرتنا الجديد بالمسار السابق، والذي كان يركّز على التطويبات، ولكنّه سيدفعنا إلى الأمام. فما يهمّني هو أن يكون باستطاعتكم أنتم الشباب أن تسيروا، وأنتم لا تحملون الماضي في ذاكرتكم وحسب، بل وأنتم تتحلّون بالشجاعة لعيش الحاضر، وبالرجاء للمستقبل. ويَظهَر هذا السلوك، الذي كان حيّا على الدوام في فتاة الناصرة اليافعة، بشكل واضح في المواضيع التي اختيرت للأيام العالميّة للشبيبة الثلاثة المقبلة. سوف نتأمّل هذه السنة (2017) حول إيمان مريم حين قالت في نشيدها: “القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة” (لو 1، 48). أما موضوع السنة القادمة (2018) –”لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله”- فسوف يجعلنا نتأمّل في المحبّة المملوءة شجاعة التي قبلت بها العذراء بشارة الملاك. واليوم العالمي للشبيبة 2019 سوف يستوحي من كلمات العذراء: “أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لو 1، 38)، أي جواب مريم للملاك، المفعم بالرجاء.
سوف تحتفل الكنيسة في أكتوبر/تشرين الأول 2018 بسينودس الأساقفة حول موضوع: الشبيبة، والإيمان وتمييز الدعوات. وسنتساءل حول كيف أنّكم أنتم الشبيبة تختبرون الإيمان وسط تحدّيات عصرنا. وسنعالج أيضًا مسألة قدرتكم على تحضير مشروع حياة، وتمييز دعوتكم، بمعنى واسع، أي إلى الزواج، في إطار الحياة العلمانيّة أو المهنيّة، أو للحياة المكرّسة والكهنوت. أودّ أن يكون هناك تناغمًا كبيرًا بين المسيرة نحو اليوم العالمي للشبيبة في باناما والمسيرة السينودسية.
إن عصرنا ليس بحاجة إلى “شبيبة-الكَنَبة”
قامت مريم، بحسب إنجيل لوقا، بعد أن قبلت بشارة الملاك وأجابت “نعم” على الدعوة بأن تكون أمّ المخلّص، وذهبت مسرعة لزيارة نسيبتها اليصابات التي هي في شهر حملها السادس (را. 1، 36. 39). مريم ما زالت شابة؛ وما بُشّرَت به هو عطيّة هائلة، إنما تنطوي على تحدّيات كبيرة للغاية؛ لقد أكّد الله لها حضوره وتأييده، ولكن ما زال هناك الكثير من الأمور الغامضة في ذهنها وفي قلبها. ومع ذلك فمريم لا تنغلق على ذاتها في بيتها، ولا تسمح للخوف أو للتكبّر بأن يعوقها. ليست مريم من النوع الذي يحتاج إلى الكنبة، حيث الشعور بالراحة والأمان، كي تكون بخير. إنها ليست شابة-الكنبة! (را. كلمة قداسة البابا خلال سهرة الصلاة، كراكوف، 30 يوليو/تموز 2016). فهي لا تتكاسل بل تقوم على الفور وتذهب إذا احتاجت نسيبتها المسنّة إلى مساعدة.
الطريق للوصول إلى بيت اليصابات هي طويلة: ما يقارب الـ 150 كلم. ولكن فتاة الناصرة، وقد دفعها الروح القدس، لا تعرف العقبات. وقد ساعدتها أيام السير بالتأكيد على التأمّل في الحدث الرائع الذي تشارك به. إن هذا ما يحدث لنا أيضًا حين ننطلق بمسيرة حجّ: تعودُ أحداثُ حياتنا إلى ذهننا طوال الطريق، ويمكننا أن نفهم معناها بالملء وأن نتعمّق بدعوتنا، التي تظهر في لقائنا بالله وفي خدمة الآخرين.
القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة
إن اللقاء بين المرأتين، الشابّة والمسنّة، هو ممتلئ من حضور الروح القدس، ومفعم بالفرح والذهول (را. لو 1، 40- 45). فكانت كلتاهما، كما وابنيهما اللذين في حشاهما، كما لو كانوا يرقصون من الفرح. هتفت اليصابات، وقد تأثرت بإيمان مريم: “طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ” (آية 45). أجل، إحدى أكبر الهبات التي نالتها العذراء، هي هبة الإيمان. فالإيمان بالله هو عطيّة لا تُقَدّر بثمن، ولكن تتطلّب أن نقبلها؛ واليصابات تبارك مريم لهذا السبب. وتجيب هي بدورها عبر نشيدها (را. لو 1، 46- 55)، الذي نجد فيه هذه العبارة: “القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة” (آية 49).
إن صلاة مريم هي صلاة “ثوريّة”، هي نشيد فتاة ممتلئة بالإيمان، تدرك محدوديّتها ولكن تثق بالرحمة الإلهيّة. ترفع هذه المرأة الصغيرة الشجاعة الشكر لله لأنّه نظر إلى تواضعها، وتشكره على العمل الخلاصيّ الذي يقوم به من أجل شعبه والفقراء والودعاء. إن الإيمان هو محور قصّة مريم بأكملها. ونشيدها يساعدنا على فهم رحمة الرّب كمحرّك للتاريخ، أكان التاريخ الشخصيّ لكلّ منّا أم تاريخ البشريّة بأسرها.
عندما يلمس الله قلب شابّ، أو شابّة، يصبح هؤلاء قادرين على الإتيان بأعمالٍ عظيمةٍ حقّا. تحدّثنا أيضًا “الأمور العظيمة” التي صنعها القدير في حياة مريم عن رحلتنا في الحياة، التي ليست تجوّل دون وجهة معيّنة، إنما مسيرة حجّ يمكنها أن تجد الملء في الله، رغم كلّ المعاناة والشكوك (را. صلاة التبشير الملائكي، 15 أغسطس/آب 2015). قد تقولون لي: “أبتي، إنني محدود جدّا، أنا خاطئ، فماذا بمقدوري أن أفعل؟”. عندما يدعونا الرب، لا يتوقّف عند ما نحن عليه، أو عند ما قد فعلنا. بل العكس، فهو ينظر، حين يدعونا، إلى كلّ ما باستطاعتنا أن نصنع، إلى كلّ المحبّة التي بإمكاننا أن نعطي. يمكنكم، على مثال الفتاة مريم، أن تجعلوا من حياتكم أداة للعمل من أجل عالم أفضل. يسوع يدعوكم لترك بصماتكم في الحياة، بصمات تطبع التاريخ، تاريخكم وتاريخ الكثيرين (را. كلمة قداسة البابا خلال سهرة الصلاة، كراكوف، 30 يوليو/تموز 2016).
أن نكون شبابا لا يعني أن نكون منفصلين عن الماضي
كانت مريم قد تخطّت سنّ المراهقة بقليل، مثل الكثير من بينكم. ومع ذلك فهي تحمل، في نشيدها، صوت تسبيح شعبها، وتاريخها. وهذا يبيّن لنا أن كوننا شبّانا لا يعني أن نكون منفصلين عن الماضي. فتاريخنا الشخصيّ هو جزء من سلسلة طويلة، من مسيرة جماعيّة سبقتنا عبر القرون. إننا ننتمي، مثل مريم، إلى شعب ما. وتاريخ الكنيسة يعلّمنا أن يد الله تقودها، أيضًا عندما عليها أن تجتاز بحارًا هائجة، وتجعلها تتخطّى الأوقات الصعبة. فالاختبار الكنسيّ الحقّ ليس مثل “التجمّع المفاجئ” (flashmob)، حيث يتمّ الاحتشاد والقيام بإداء ما ومن ثم يذهب كلّ في طريقه الخاص. بل تحمل الكنيسة في ذاتها تراثًا طويلًا، ينتقل من جيل إلى جيل، ويغنينا في الوقت عينه باختبار كلّ فرد. ولتاريخ حياتكم أيضًا مكان ضمن تاريخ الكنيسة.
إن تذكّر الماضي يساعدنا أيضًا على قبول التدخّلات الجديدة التي يريد الله أن يحقّقها فينا ومن خلالنا. ويساعدنا في الانفتاح على اختيارنا كأداة له، ومعاونين لتدابيره الخلاصيّة. أنتم أيضًا أيها الشباب بإمكانكم أن تقوموا بأمور عظيمة، وأن تتحمّلوا مسؤوليّات كبيرة، إن أدركتم عمل الله الرحيم والقدير في حياتكم.
أودّ أن أطرح عليكم بعض الأسئلة: بأيّ شكل “تحفظون” في ذاكرتكم أحداث حياتكم وخبراتها؟ ماذا تصنعون بالوقائع والصور المطبوعة في ذاكرتكم؟ قد يرغب البعض، ولا سيّما الأشخاص المجروحين من ظروف الحياة، بأن “يعيدوا بناء” الماضي، ويمارسوا حقّهم في النسيان. لكنّي أودّ أن أذكّركم بأنه ليس هناك من قدّيس دون ماضي، ولا خاطئ دون مستقبل. فاللؤلؤة تولد من جرح المحار! يسوع يستطيع، بمحبّته، أن يشفي قلوبنا، محوّلًا جروحنا إلى لآلئ حقّة. كما يقول القدّيس بولس، باستطاعة الرّب أن يظهر قوّته عبر ضعفنا (را. 2 قور 12، 9).
لكن لا يجب أن تبقى ذكرياتنا كلّها متراكمة، كما في القرص الصلب. ولا يمكن الاحتفاظ بكلّ شيء في “سحابة افتراضية”. علينا أن نتعلّم كيف نجعل أحداث الماضي تصبح واقعًا ديناميكيًّا، نتأمّل فيه ونستخرج منه درسًا ومعنىً لحاضرنا ولمستقبلنا. إن اكتشاف خيط محبّة الله الذي يربط حياتنا كلّها ببعضها لهي مهمّة صعبة؛ صعبة ولكنها ضروريّة.
يدّعي الكثيرون بأنّكم أنتم الشباب دون ذاكرة وسطحيّون. أنا لا أوافق على الإطلاق! ولكن علينا أن نعترف أنه هناك حاجة في زمننا هذا إلى استرجاع القدرة على التفكير في حياتنا الخاصة والتطلّع إلى المستقبل. فأن يكون لنا ماضي ليس كأن يكون لنا تاريخ. فمن الممكن أن يكون لنا الكثير من الذكريات في حياتنا، ولكن كم من هذه الذكريات تبني فعلًا ذاكرتنا؟ كم منها هو ذات مغزى لقلبنا، ويساعدنا على إعطاء معنى لحياتنا؟ تَظهَر أوجه الشباب، على الشبكات الاجتماعية، في الكثير من الصور التي تقصّ أحداثًا حقيقيّة بعض الشيء، ولكنّنا لا نعرف أيّ منها هو “تاريخ”، أو خبرة يمكن قصّها، لها هدف وذات معنى. وبرامج التلفاز تعجّ بـما يسمّى بـ “عروض واقعية”، ولكنّها ليست قصص حقيقيّة، ليست إلا دقائق تمرّ أمام الكاميرا، حيث يعيش الأشخاص ليومهم، دون أيّ مشروع. لا تدعوا هذه الصورة المغلوطة عن الواقع تضلّلكم! كونوا صانعي تاريخكم، قرّروا أنتم مستقبلكم!
كيف يمكننا أن نبقى متّصلين، ونحن نتّبع مثال مريم
قيل عن مريم أنها كانت تحفظ كلّ الأمور وتتأمّلها في قلبها (را. لو 2، 19. 51). تعلّمنا فتاة الناصرة البسيطة هذه بمثلها كيف نحتفظ بذاكرة أحداث الحياة، بل وكيف نصلها ببعضها البعض أيضًا، ونوحّد الأجزاء، التي باستطاعتها أن تشكّل معًا فسيفساء. كيف يمكننا أن نتمرّن بشكل ملموس في هذا النحو؟ أعطيكم بعض النصائح.
يمكننا التوقّف قليلًا عند نهاية كلّ يوم لنتذكّر الأوقات الجميلة، والتحدّيات، والأمور التي سارت بشكل جيّد، والأخرى التي سارت بشكل سيء. ويمكننا هكذا أن نعبّر، أمام الله وأمام ذواتنا، عن مشاعر الامتنان، والتوبة، وتسليم الذات؛ بإمكانكم أيضًا، إن شئتم، تدوينها في دفتر، نوع من المذكّرة الروحية. هذا يعني الصلاة في الحياة، ومع الحياة، وللحياة، وسوف يساعدكم هذا بالتأكيد على فهم الأمور العظيمة التي يصنعها الرّب لكلّ منكم بشكل أفضل. كما قال القدّيس أغسطينوس: الله، يمكننا أن نجده في مجالات ذاكرتنا الواسعة (را. اعترافات، الكتاب X، 8، 12).
عندما نقرأ نشيد مريم، ندرك كم كانت مطلعة على كلمة الله. فلكلّ آية من هذا النشيد، هناك آية موازية في العهد القديم. وكانت تعرف أمُّ يسوع الشابّة صلوات شعبها معرفةً جيّدة. قد علّمها إيّاها بالتأكيد والديها، وأجدادها. وكم هو مهمّ نقل الإيمان من جيل إلى جيل! فهناك كنز خفيّ في الصلوات التي يعلّمنا إيّاها أجدادنا، في تلك الروحانية التي تعاش في ثقافة البسطاء والتي نسمّيها نحن التقوى الشعبية. ومريم تَجمَع تراثَ إيمان شعبها وتؤلّفه من جديد في نشيد خاص بها، لكنه في الوقت عينه نشيد الكنيسة جمعاء. والكنيسة بأسرها تنشده معها. فكي يكون باستطاعتكم أنتم الشباب أن تنشدوا نشيدًا خاصًّا بكم وأن تجعلوا من حياتكم هبة للبشريّة كلّها، من المهمّ أن تعيدوا علاقتكم بصلاة الذين سبقوكم وبتقليدهم التاريخيّ. ومن هنا أهمّية معرفة الكتاب المقدّس، كلمة الله، وقراءته اليوميّة بمقارنة مع حياتكم، وقراءة الأحداث اليوميّة على ضوء ما يقوله الرّب لكم في الكتاب المقدس. إن يسوع، عبر الصلاة والقراءة المصلّية للكتاب المقدس (ما يسمى بالقراءة الإلهية)، يوقد شعلة قلوبكم مجدّدا، وينير خطواتكم، حتى في الأوقات المعتمة من حياتكم (را. لو 24، 13- 35).
تعلّمنا مريم أيضًا كيف نحيا بروح افخارستيّة، أي كيف نرفع الشكران، وننمّي التسبيح، ولا نتوقّف فقط عند المشاكل والمصاعب. فابتهالات اليوم، في ديناميكية الحياة، تصبح غدًا دافعًا للشكر. فتكون هكذا مشاركتكم بالقدّاس الإلهي والأوقات التي تعيشون فيها سرّ الاعتراف هي، في الوقت عينه، قمّة ونقطة انطلاق: فتتجدّد حياتكم كلّ يوم بالمغفرة، وتصبح تسبيحًا دائمًا للقدير. “ثقوا بذاكرة الله […] إن ذاكرته هي قلب تعاطف حنون، يفرح في إلغاء كلّ أثر للشرّ لدينا نهائيا” (عظة خلال القداس الإلهي، كراكوف، 31 يوليو 2016).
لقد رأينا أن نشيد مريم ينبع من قلبها حين تلتقي بنسيبتها المسنّة اليصابات. واليصابات، بإيمانها ونظرتها الحادّة وكلامها، تساعد العذراء على أن تفهم بشكل أفضل عظمة عمل الله فيها، والرسالة التي عهد بها إليها. وأنتم، هل تشعرون كيف أن اللقاء بين الشباب والمسنين هو مصدر غنى استثنائي؟ أيّ اهتمام تولون للمسنين، لأجدادكم؟ أنتم تتوقون، وهذا حقّ، إلى “الانطلاق”، وتحملون في قلوبكم الكثير من الأحلام، ولكنّكم بحاجة إلى حكمة المسنّين ونظرتهم. فمن المهمّ، فيما تفتحون جناحيكم، أن تكتشفوا جذوركم وأن “تستلموا الدفّة” من الأشخاص الذين سبقوكم. وكي يُبنى مستقبل ذو معنى، يجب فهم الأحداث الماضية واتخاذ المواقف تجاهها (را. الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحب، 191. 193). أنتم الشباب تملكون القوّة، والمسنّون يملكون الذاكرة والحكمة. فعلى مثال مريم مع اليصابات، أميلوا نظركم نحو المسنّين، تجاه أجدادكم. وسوف يخبروكم بأشياء ستذهل عقلكم وتحرّك قلوبكم.
أمانة خلّاقة لبناء زمن جديد
صحيح أن خبرتكم قليلة ولذا قد يبدو لكم من الصعب أن تعطوا التراث قيمته الواجبة. لكن خذوا بعين الاعتبار أن هذا لا يعني أن تكونوا تقليديّين. كلّا! عندما تقول مريم في الإنجيل “القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُمورًا عَظيمة”، تعني أن هذه “الأمور العظيمة” لم تنتهِ، إنما لا تزال تتحقّق في الوقت الحاضر. ليست مسألة ماضٍ بعيد. وأن نعرف كيف نتذكّر الماضي لا يعني أن لدينا حنين إلى الماضي أو أنّنا ما زلنا متعلّقين بفترة معيّنة من التاريخ، إنما يعني أن نعرف كيف نعترف بجذورنا، كي نعود دومًا إلى ما هو أساسيّ فننطلق بأمانة خلّاقة في بناء زمن جديد. فمن السيّء أن ننمّي ذاكرة تعوقنا وتجعلنا نقوم بالأشياء نفسها وبالطريقة نفسها، ولا أحد يستفيد من هذا الأمر. إنها لعطيّة من السماء أن نرى الكثير منكم، مع تساؤلاتكم، وأحلامكم وطلباتكم، تعارضون أولئك الذين يدّعون أن الأمور لا يمكن أن تكون مختلفة.
إن المجتمع الذي يعطي قيمة للحاضر فقط يميل أيضًا إلى الحطّ من قدر كلّ ما يرثه من الماضي، مثل الزواج، والحياة المكرّسة، والرسالة الكهنوتية. وتُعتَبر هذه في نهاية الأمر كشؤون لا معنى لها، وكشكليّات قد تمّ تخطّيها. ونظنّ أننا نحيا بشكل أفضل في حالات –تُسمّى- “منفتحة”، ونتصرّف في الحياة كما في “العروض الواقعية”، دون هدف ودون مقصد. لا تنخدعوا! لقد جاء الله كي يوسّع آفاق حياتنا، في كلّ الاتجاهات. وهو يساعدنا كي نعطي الماضي قدره من القيمة، وكي نحضّر مستقبلًا فَرِحًا بشكل أفضل: إلا أن هذا سيكون ممكنا فقط إن كانت هناك خبرات حبّ صادقة، تتجسّد باكتشاف دعوة الرّب وبالإجابة عليها. إنه الأمر الوحيد الذي يسعدنا حقًّا.
أيّها الشباب الأعزّاء، إني أعهد بمسيرتنا نحو باناما، كما ومسيرة تحضير سينودس الأساقفة المُقبل، إلى تضرّع مريم العذراء الوالديّ. وأدعوكم إلى تذكّر مناسبتين هامتين في سنة 2017: الذكرى المئويّة الثالثة لاكتشاف صورة سيدة أباريسيدا، في البرازيل؛ والذكرى المئويّة الأولى لظهورات فاطمة، في البرتغال، حيث سأذهب بمعونة الله بزيارة حجّ في شهر مايو / أيّار القادم. اعتاد القدّيس مارتن دي بورّيس -أحد شفعاء أميركا اللاتينية ويوم الشبيبة العالمي لسنة 2019- في خدمته الوديعة اليوميّة، أن يقدّم أفضل الزهور إلى مريم، كعلامة لحبّه البنويّ. أنتم أيضًا، على مثاله، نمّوا علاقة أُلفة وصداقة مع السيّدة العذراء، عاهدين إليها بأفراحكم وهمومكم ومخاوفكم. إني أؤكّد لكم أنّكم لن تندموا!
نسأل فتاة الناصرة، التي اتّخذت ألف وجه وألف اسم في العالم كلّه كي تكون قريبة من أبنائها، أن تتضرّع من أجل كلّ واحد منا، وتساعدنا على التغنّي بكلّ ما صنعه الرّب فينا ومن خلالنا.
من الفاتيكان، 27 فبراير 2017، في ذكرى القديس غابرييل لسيدة الأحزان
فرنسيس
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana