إن القراءات التي تُلِيَت علينا تسمح لنا بالدخول في علاقة مع التقليد الرسولي، الذي ليس “نقلًا لأشياءٍ أو لكلماتٍ، أو لمجموعةٍ من الأمور الميتة”. التقليد هو النهر الحيّ الذي يربطنا بالأصول، النهر الحيّ الذي فيه تبقى الأصول الحيّة حاضرة على الدوام” (بندكتس السادس عشر، تعاليم، 26 أبريل/نسان 2006) ويهبنا مفاتيح ملكوت السماوات (را. متى 16، 19). هو تقليد أبدي وجديد على الدوام، يعيد إحياء فرح الإنجيل وينعشه، ويسمح لنا هكذا بأن نعترف بفمنا وبقلبنا أن: “يسوع المسيح هو الربّ!، تَمْجيدًا للهِ الآب” (فل 2، 11).
إن الإنجيل بأسره يريد الإجابة على السؤال الذي كان يسكن قلب شعب إسرائيل والذي ما يزال يسكن اليوم الكثير من الوجوه العطشى للحياة: “أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟” (متى 11، 3). لقد عاد يسوع وطرح السؤال نفسه على تلاميذه: “مَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟” (متى 16، 15).
وتكلّم بطرس ناسبًا إلى يسوع اللقب الأعظم الذي يمكنه أن يناديه به: “أنت هو المسيح” (را. متى 16، 16)، أي الممسوح، قدّوس الله. تسرّني معرفة أن الآب هو من أوحى بهذه الإجابة إلى بطرس، الذي كان يرى كيف أن يسوع “يمسح” شعبه. يسوع، الممسوح الذي يسير، من مدينة إلى مدينة، وله رغبة وحيدة بتخليص وإعانة مَن كان مُعتَبرًا ضائعًا: “يمسح” الميت (را. مر 5، 41- 42؛ لو 7، 14- 15)، ويمسح المريض (را. مر 6، 13؛ يع 5، 14)، ويدهن الجراح (را. لو 10، 34)، ويمسح التائب (را. متى 6، 17). يمسح الرجاء (را. لو 7، 38. 46؛ 10، 34؛ يو 11، 2؛ 12، 3). وقد تمكّن كلّ خاطئ وكلّ مهزوم، ومريض ووثني، في هذه المسحات، أن يشعر أنه عضوٌ محبوب من عائلة الله. فكان يسوع، عبر أعماله، يقول له شخصيًّا: أنت تنتمي إليّ. وعلى غرار بطرس، يمكننا نحن أيضًا أن نعترف بفمنا وبقلبنا ليس فقط بما سمعناه، إنما أيضًا خبرة حياتنا الملموسة: لقد قمنا من الموت، وتمّ الاعتناء بنا، وتجدّدنا، وامتلأنا رجاءً من مشحة القدّوس. وقد تحطّم كلّ نير عبوديّة بفضل مشحته (را. أش 10، 27). ولا يمكننا أن نفقد الفرح وألّا نذكر معرفتنا بأننا قد افتُدينا، ذاك الفرح الذي يقودنا إلى الاعتراف: “أنت هو ابن الله الحيّ” (را. متى 16، 16).
مثير للاهتمام أيضًا الانتباه إلى ما يتبع نصّ الإنجيل الذي يعلن فيه بطرس إيمانه: “وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث” (متى 16، 21). ممسوح الله يحمل محبّة الآب ورحمته حتى أقصى العواقب. وهذه المحبّة الرحيمة تتطلّب منّا الذهاب إلى كلّ زوايا الحياة كي نصل للجميع، حتى وإن كلّفنا ذلك “السمعة الحسنة”، والراحة، والمركز… والشهادة.
إزاء الإعلان غير المنتظر هذا، بطرس يتفاعل: “حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!” (متى 16، 22) فتحوّل فورًا إلى حجرة عثرة في طريق المسيح؛ وظنّا منه أنه يدافع عن حقوق الله، تحوّل دون أن ينتبه، إلى عدوّ له (يدعوه يسوع “شيطانا”). إن التأمّل بحياة بطرس وإعلان إيمانه يعني أيضًا أن نتعلّم معرفة التجارب التي ترافق حياة التلميذ. على غرار بطرس، سوف نتعرّض، ككنيسة، إلى “همسات” الشرّير التي سوف تكون أحجار عثرة بالنسبة للرسالة. وأقول “همسات” لأن الشرّير يغرينا وهو مختبئ دومًا، بطريقة لا تظهر فيها نيّته، “يتصرّف بكذب في إرادته بالبقاء غير مرئيّ وألّا يظهر” (القدّيس اغناطيوس، التمارين الروحيّة، عدد 326).
أمّا المشاركة بمسحة المسيح هي المشاركة في مجده، التي هي أيضًا صليبه: يا أبتِ، مجّد ابنك… “يا أَبتِ، مَجِّدِ اسمَكَ” (يو 12، 28). مجد المسيح وصليبه يتماشيان ولا يمكن فصلهما؛ لأنه عندما نهجر الصليب، حتى وإن دخلنا في روعة المجد المبهرة، نخدع أنفسنا، لأنه ليس مجد الله إنما هزار الخصم.
وليس من النادر أن نشعر بأنّنا مسيحيّون مع الحفاظ على مسافة حكيمة تبعدنا عن جراحات الربّ. إن يسوع يلمس، يلمس البؤس البشريّ، ويدعونا للبقاء معه وللمس أجساد الآخرين التي تعاني. وإعلان الإيمان بفمنا وقلبنا يتطلّب –كما طلبه من بطرس- تحديد “همسات” الشرّير. أن نتعلّم كيف نميّز ونكشف “الأغلفة” الشخصيّة والجماعيّة التي تبعدنا عن قلب المأساة البشريّة؛ والتي تمنعنا من لمس حياة الآخرين الملموسة، وتمنعنا في النهاية، من معرفة قوّة حنان الله الثورويّة (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 270).
يريد يسوع، عبر عدم فصل المجد عن الصليب، أن ينجّي تلاميذه، وكنيسته، من الرضى الذاتي الفارغ: الفارغ من المحبّة، الفارغ من الخدمة، الفارغ من التعاطف، الفارغ من الشعب. يريد تنجيتها من تصوّر بلا حدود لا يعرف أن يتجذّر في حياة الشعب المؤمن أو، أسوأ من ذلك، يظنّ أن خدمة الربّ تتطلّب منها التخلّص من طرق التاريخ الترابية. إن التأمّل بيسوع واتّباعه يتطلّب أن ندع قلبنا ينفتح على الآب وعلى جميع الذين أراد أن نراه فيهم (را. القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية الألفية الجديدة، 49)، وهذا مع اليقين أنّه لن يتخلّى عن شعبه.
أيها الإخوة الأعزاء، ما زال هذا السؤال يسكن في الكثير من الوجوه: “أأنت الآتي أم ننتظر آخر” (متى 11، 3). لنعلن بفمنا وقلبنا: يسوع المسيح هو الربّ (را. فل 2، 11). هذه هي أنشودتنا الثابتة التي نحن مدعوّون إلى ترنيمها كلّ يوم. مع بساطة ويقين وفرح معرفة أن “الكنيسة لا تشرق من نورها الذاتي، إنما من نور المسيح. تستمدّ بهاءها من نور البرّ، فتقدر بهذا أن تقول: “ما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ“(غل 2، 20)” (القديس أمبروسيوس، تعليقات على الكتاب المقدّس، IV، 8، 32).
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana