Catholic center for information

الدعوة إلى القداسة في العالم الحاضر

ندوة حول الإرشاد الرسولي لقداسة البابا فرنسيس إفرحوا وابتهجوا
في المركز الكاثوليكي للإعلام 18 تشرين الأول 2018

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

المركز الكاثوليكي للإعلام – عقدت قبل ظهر البارحة ندوة صحفية في المركز الكاثوليكي للإعلام، بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، حول الإرشاد الرسولي لقداسة البابا فرنسيس “إفرحوا وابتهجوا” حول الدعوة إلى القداسة في العالم الحاضر.

شارك فيها رئيس أساقفة بيروت للموارنة ورئيس اللجنة الاسقفية لوسائل الإعلام المطران بولس مطر، راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبده أبو كسم، وحضور الأب انطوان عطالله،  وعدد من الإعلاميين والمهتمين.

ابو كسم

بداية تحدث الخوري عبده أبو كسم فقال: “يسعدنا اليوم مع صاحب السيادة المطران بولس مطر رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام وسيادة المطران ميشال عون أن نقدم الإرشاد الرسولي لقداسة البابا فرنسيس “إفرحوا وابتهجوا” حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر، طبع باللغة العربية، وقام بترجمته وإعادة صياغته الأب جورج بليكي مشكوراً.

تابع “هذا الإرشاد يدعونا إلى عيش القداسة في حياتنا اليومية حسب دعوتنا المسيحية، هو دستور لحياة كل إنسان مسيحي منا يستطيع التأمل به والقداسة غير بعيدة عنه.”

وختم بالقول “ندعو كل الحركات الرسولية وكل المؤسسات الرهبانية وأصحاب السيادة تعميم هذا الكتاب على الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين في رعاياهم، ومن المدارس الكاثوليكية في الصفوف العليا في التعليم المسيحي أن يكون هذا الكتاب محطة لكل شاب وشابة، للإستفادة من كلمة لله وتطبيقها في حياتنا. وللحصول على هذا الإرشاد فهو موجود في المركز الكاثوليكي للإعلام.”

مطر

المطران مطران تحدث عن الفصل الأول والثاني في الإرشاد فقال:

“هذا الكتاب هو تحفه جديدة في كتب قداسة البابا فرنسيس، والجميل في مجملها أنها تأخذ عنواناً الفرح، كتب عن “فرح الإنجيل”، “فرح الحب”، والآن يعنون “إفرحوا وابتهجوا” لأن أجركم عظيم في السماء. والقداسة مرتبطة بالفرح ارتباطاً وثيقاً، وهي ليست حركاً على الكهنة والرهبان، وليست نمطاً كهنوتياً، بل القداسة هي دعوة لجميع المؤمنين أن يحيو من قداسة الله وأن ويعبروا في حياتهم عن هذه القداسة. كما توجد النعمة الحالية توجد القداسة الحالية، قداسة الأم وقداسة الوالد، قداسة الحاكم والحكيم، عندما يقوم كل إنسان بعمله يسير على طريق القداسة.”

يقول البابا “القداسة نعيشها في الجماعة، نحن نخص جماعة القديسين أي أبناء الكنيسة. القديس بولس عندما كان يكتب لم يكن يقول إلى المسيحيين بل إلى القديسين أي يضع سمة القداسة على كل المؤمنين  بمعنى أنهم هكذا يجب أن يكونوا، أن يعبروا عن فرح الله في قلبهم وعن محبة الله عبر محبتهم.”

ألفت إلى عظة جميلة جداً ألقاها البابا بندكتوس السادس عشر في وداع القديس يوحنا بولس الثاني، أربعة ملايين إنسان كانوا في وداع هذا الرجل العظيم، العالم كله كان يتبع على شاشان التلفزة، الأرض كلها كانت مهتمة بوداع هذا الرجل والسماء كانت مهتمة باستقباله،  يقول البابا بنديكتوس “يذهب إلى السماء ولكن لا يذهب وحده، يحيط به الملائكة يحيط به القديسون وبخاصة الذين قدّسهم في أيامه وكانوا بعدد كبير”، يدل على أننا نحيا قداستنا وسط جماعة تؤثر علينا، ومع قديسين الذين يشفعون بنا، لا نطنن أن الإنسان منا يحيا القداسة لوحده لسنا جزراً معزولة نحن مترابطون والقديسون شفعاؤنا يساعدونا.”

الفكرة الثانية التي قالها البابا هي أن القداسة مرتبطة بالمحبة، لا يمكن أن يكون قديس دون حب، محبة الله والله أحبنا أولاً عندما نعترف بمحبته إلينا نجيب على محبة بمحبة ونذهب إلى الآخرين بمحبة دون استثناء، وبالمناسبة يلحظ قداسة البابا بكلام جميل عن المرأة إذ يقول أنها هي سمة قداسة خاصة بها لأن محبتها هي محبة خاصة، ويذكر بالقديسات اللواتي خدمن  الكنيسة  وكنا منارات من تريز دي كالكوتا إلى القديسة ريتا ألى امي مريم أم الأمهات، والمرأة لها صفة خاصة بالقداسة.”

ولذلك يقول البابا لجميع الناس أنتم تحيون القداسة عندما ترتبطون بالله وعندما تنقلون محبته إلى الآخرين، حياتكم هي رسالة، رسالة المسيح أن يعرف الناس أنكم تلاميذ المسيح إذا كان فيكم حب بعضكم لبعض، هذه هي القداسة كما يراها قداسته. ويقول طبعاً عندك أخطاء وعندك نواقص الكمال لله وحده، والله لا ينظر إلى أعمالك منفصلة بل ينظر إلى حياتك كلها، يتبعك من الألف إلى الياء في سقطاتك في نهوضك، أنت محبوب من الله والله يتبعك بنطراته المحبه يساعدك أينما انت وكيفما كنت حتى تكمل طريقك وبالنتيجة أنت نتيجة كل أعمالك معي.”

لذلك جميل جداً أن ندرك نحن أننا حتى في خطيئتنا نبقى أكبر من خطيئتنا، لو كانت خطيئتي أكبر مني لخطئت ولا مجال لأن أرتفع من جديد، أنا أكبر من خطيئتي، والله أكبر منا جميعاً، لذلك نستطيع أن نمتص بنعمة هذه الخطيئة وأن ننفضها عنا وأن نكمل طريقنا، لهذا عند البابا مسحة إنسانية كبيرة تعطي الأمل والرجاء للذين يحاولون في حياتهم التقرب من الله.”

ويقول البابا في الأعمال الصغيرة استطيع أنا أن اعطي عن الله صورة وعن المحبة ويعطي مثلاً “امرأة تذهب لتبتاع في دكان تستطيع في مشوارها أن تعمل اعمالاً حسنة أن لا تتكلم بالسوء عن أحد، الإنسان الذي يتصرف تصرفاً مسيحيا يحيا القداسة، يرضى الله عنها وونستطيع نحن أيضاً أن نعطي عن الله صورة حقيقية.”

البابا يتكلم عن الكهنة والرعاة يجب أن تكون فيهم رائحة الأغنام أي أن يدخلوا إلى حظيرة وليتبعوا الناس، ونحن أيضا مدعوون لأن تفوح منا رائحة المسيح هل هذا صحيح في حياتنا؟ ربما سقطنا، ربما زللنا، ربما تعبنا، ولكن الرب يقول “قم وسر امامي وكن كاهناً” يحثنا على ذلك، والبابا يقول يجب أن نكمل هذا الطريق ويساعدنا على ذلك أننا يجب أن ندرك أن القداسة هي البنيان في ملكوت الله.”

“أذاً نحن مدعوون إلى العمل أن نبني، كيف نبني ملكوت الله، يقول البابا نبنيه ببنيان السلام،  وبنيان العدل والإنسانية، الغفران والمصالحة، المصالحة المسيحية هي مقدسة لنستمر في هذه المصالحة لأن الله صالحنا بدم ابنه، والكتاب المقدس يقول “تصالحوا مع الله وتصالحوا بعضكم مع بعض” هكذا نحن نعيش القداسة كما يقول البابا، وإن عندما نقوم بذلك  نكون سائرين على هذا الطريق، ويقول “لا نهربن من العمل من المسؤوليات حتى في الصلاة” الصلاة ليست هرباً والحياة المثلية ليست هربا من الدنيا والدلالة على ذلك أن القديس شربل الناسك بقي قريباً من الناس يشفي امراضهم ويهتم بهم.”

وينهي المقطع بكلمه عن أن القداسة لا تنقص شيئاً من إنسانيتنا هذا أمر اساسي، القداسة هي الإنسانية بعينها وهي أعلى من الإنسانية. وينهي هناك حزن واحد في العالم هو أن لا نكون قديسين. أتمنى من صميم أن يقرأ بتمعن لدى جميع الناس ليفهموا كيف يحيون القداسة وكيف يساهمون في عرضها على الناس، القداسة هي صفة المسيحية.”

في الفصل الثاني يتحدث البابا عن عدوين ماكرين ضد القداسة ويذهب إلى المسيحية الأولى حول بعض التشويهات التي حدثت في الفكر المسيحي عبر ما يسميه  العارفون “الغنوصية وبعضها يتكلم عن البلاجيانية”، هناك بعض الناس هم العارفون والآخرون جاهلون وهذا أمر خطير، إذا كان العارفون هم البشر والجاهلون ليسوا البشر لما لا نقتل الجهلة ونبقي على العارفين، كيف نعامل الناس سواسيتاً، المسيحية على عكس ذلك يقول المسيح يذهبون قبلكم الأطفال يسبقونكم إلى ملكوت الله .”المعرفة ضرورية ومعرفة الله ضرورية ولكن تأليه المعرفة جعلها هي الأساس تصبح خطراً على الإنسانية وبصورة خاصة على القداسة.”

يقول البابا يصبحون هم المقياس وليس الله، يحاولون حتى أن تكلموا عن الله  أن يفهموا الله على طريقتهم ويصوروا الله على طريقتهم حتى إذا تكلموا عن أن يفهموا الله على طريقتهم هم الذين يحكمون على الأمور يصبحون الله ويصبح الله خادماً لهم ولأجلهم ويقدسون ذواتهم فوق الآخرين، ويقول البابا الخطر بالمعرفة الإنسانية أن تصبح هي المقياس الوحيد ويصبح الإنسان هو فوق الأشياء”، يجب أن نذكر أن المسيحية ليست معرفة بالأساس وحدها، وكل غياب للمحبة هو غياب للإنسانية. بالعقل نحن ندرك الله ولكن لا ندرك كل الله عبر طاقاتنا البشرية المحدودة التي تطال الله من بعيد لبعيد. الله يكشف لنا ذاته ولذا يجب أن يكون لنا استقبال للحقيقة.

يقول البابا حتى باللاهوت هناك تفسيرات متتعددة وتقاليد (بيزنطي، لاتيني الخ…). العارفون لا يقبلون بذلك عندهم ما يقولون هو الصحيح. القديس هو مجروح في قلبه وفي عقله، الإنسان الكامل لا يترك مكاناً لله في قلبه، لذلك البابا يقول إن هذا الوضع خطير وخطير جداً ويذكر عن كتابة قام بها فرنسيس الأسيزي للقديس أنطونيوس: “أطلب منك أن تعلم الصلاة ولكن لا تدع تلاميذك يبتعدون عن الصلاة وعن التقشف.”

هناك عارفوت في اللاهوت لا يصلون ويحكموا ، الأكويني كان يركع ويصلي قبل أن يكتب اللاهوت، الغنوصيون لا يصلون و لذلك يقول البابا أرجوكم لا تبعدوا الرحمة عن المعرفة، يجب علينا أن نتقبل الله في حياتنا”. هذا هو العدو الأول ضد القداسة أن نكون ممتلئين من ذاتنا بدل أن نمتلىء من الله.”

العدو الثاني البلاجيانية بمعنى أنا أخلص نفسي أنا الله، الله يلهمنى من غير الضروري أن يكون المسيح،  فيجيب اغسطينوس قائلاً لا نخلص بإرادتنا بل بالمسيح.” يجب أن نعترف بحدودنا، إرادتنا هي من نعمة الله وهو يخلصنا مجاناً.” لذلك أيها الإراديون تواضعوا ولتكن مشيئة الله، هكذا لن نخلص ولن نشتري السماء، البلاجيانية هي خطأ كبير في حياة الكنيسة الأولى وحاربها القديسون، علينا العمل دائماً لمجد الله، أنت البداية وأنت النهاية.”

ويقول البابا في نهاية هذا الفصل الكنيسة خارجاً عن المحبة تصبح متحفاً بارداً وحدها المحبة تضع فيها الروح، ومن يتكل على ذاته يصبح هيكلاً عظمياً، وينهي هذا الفصل عن تراتبية القيم والفضائل قائلاً الفضائل الأولى هي الفضائل الإلهية الإيمان والرجاء والمحبة واولاها المحبة ثم تأتي الفضائل البشرية ولذلك لا الغنوصية ولا البلاجيانية ولا التوكل على المعرفة وحدها ولا على الإرادة بل التوكل على الله يلبسنا النعمة ونصير في شركة القديسين.”

عون

ثم تحدث المطران ميشال عون فقال:

“يطيب لي أن أعرض لكم الفصول الثالث والرابع والخامس من الإرشاد الرسوليّ “افرحوا وابتهجوا”.”

تابع “في مطلَع الفصل الثالث يقول البابا فرنسيس: لشرح القداسة، لا شيء أكثر إنارة من العودة إلى كلام يسوع. لقد شرح يسوع بغاية البساطة ما معنى القداسة لمّا علّمنا التطويبات. من خلالها يرتسم وجهُ المعلّم الذي نحن مدعوّون إلى إعلانه في حياتنا اليوميّة. وبما أن كلماتِ يسوع تدعونا إلى السير في الاتجاه المعاكس لما هو عاديّ، لذلك لا نستطيع أن نحياها إلاّ إذا استحوذ الروح القدس علينا.

أضاف “يبدا قداسة البابا بالتطويبات بحسب متى ٥، ٣-١٢:

“طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوتَ السماوات”. عندما يشعر القلب أنه غنيّ، يكتفي بذاته ولا يترك مكانًا لكلمة الله ولمحبة الإخوة وللتمتّع بقضايا الحياة الأكثر أهمية. والفقر بالروح يرتبط ارتباطًا وثيقًا ب”الاستسلام المقدّس”، كما يدعوه القديس اغناطيوس دي لويولا، والذي به نبلغ إلى حرية داخليّة رائعة. الفقر بالقلب، تلك هي القداسة.

طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض“. يسوع يقترح الوداعة بدل الكبرياء والغرور وروح التسلّط وكلّها تقود إلى العداوة والبغض. قال يسوع “تتلمذوا لي، لأني وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم”. إن الوداعة هي من ثمار الروح القدس، والإصلاح يصير بروح الوداعة، وهي تعبيرٌ آخر للفقر الداخليّ، فقر المرء الذي يضع ثقته بالله. التفاعل بوداعةٍ متواضعة، تلك هي القداسة.

طوبى للحزانى، فإنهم يُعزَّون“. العالم يتشكّك عادةً من المرض والألم، ويُفضِّل أن يتجاهل المواقف المؤلمة والمُحزنة أو أن يهرب منها. أما الإنسان، الذي يلمس الواقع ويقبل أن يشارك في الحزن، يتعزّى بتشجيعٍ من يسوع. فهو يجد معنىً للحزن والألم في حمله ومشاركة الآخر فيه، فيشعر أن الآخر “لحمٌ من لحمه” (تك ٢، ٢٣). أن نبكي مع الآخرين، تلك هي القداسة.

طوبى للجياع والعطاش إلى البِر، فإنهم يُشبعون“. التوق والبحث عن البرّ، ونحن يمكن أن نُسهِم في تحقيقه. كم من الناس يقعون ضحايا الظلم وأحيانًا نعدل عن الكفاح من أجل البرّ الحقيقيّ ونختار ركوب قطار الظافر. الجواب هو أن أكون عادلاً في قراراتي الشخصيّة وأن أبحث عن العدالة للفقراء والضعفاء. السعيُ إلى البرّ بجوعٍ وعطشٍ، تلك هي القداسة.

طوبى للرحماء، فإنهم يُرحَمون“. للرحمة وجهان: إنها تقوم على العطاء والمساعدة وخدمة الآخرين، وتقوم كذلك على الغفران والتفهّم. عندما نُعطي ونَغفر نعكس في حياتِنا شعاعًا صغيرًا من كمال الله الذي يُعطي ويَغفر بوفرة. النظر والعمل برحمة، تلك هي القداسة. أليس هذا ما يطلبهُ المسيح منا في متى ٢٥، ٣١-٤٦ عندما يطلب منا عيش الرحمة مع إخوته الفقراء والصغار؟

طوبى للأنقياء القلوب، فإنهم يُعاينون الله“. هذه التطويبة تعني الأشخاص أصحاب القلب البسيط والنقي والطاهر، لأن القلب الذي يعرف أن يُحب لا يسمح أن يتغلغل إلى حياته ما يُسيء إلى الحب. القلب هو نوايانا الحقيقية، ما نبحث عنه وما نرغب فيه، إذ من القلب تصدر أعمال المحبة ومنه تصدر أيضًا الخطايا. الحفاظ على القلب نقيًا من كل ما يُدنِّس الحُب، تلك هي القداسة“.

طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناءَ الله يُدعَون“. هذه التطويبة تُذكّرنا بالحالات التي نَكُون فيها مُسبّبي سوء التفاهم أو مُساهمين في تعميق الخلافات بين البشر. الأناس المُسالمون هم ينبوعُ سلام، والرب يسوع يدعونا إلى أن نزرع السلام اينما حللنا، وبذلك نكون حقًا أبناءً لأبينا السماويّ. زرعُ السلام فيما حولنا، تلك هي القداسة.

طوبى للمُضطهَدين من أجل البر، فإن لهم ملكوتَ السماوات“. كي نعيش الإنجيل، لا يمكن أن نتوقّع بأن يكون كلُّ ما حولنا مؤاتيًا لنا، لأنه غالبًا ما تُعاكسُنا طموحات السلطة والمصالح الدنيويّة. إن الصليب، وبالأخص الضيقات والآلام التي نُقاسيها كي نتّبع وصية المحبة وطريق البرّ، هو ينبوعُ نضوجٍ وتقديس. أن نقبلَ دائمًا طريق الإنجيل حتى إذا سبّب لنا مشاكل، تلك هي القداسة.

بعد شرح التطويبات، وانطلاقًا من الأمانة للمعلّم، يقول البابا أن القداسة ليست في مشاهدة المسيح والتأمل فيه وحسب بل أن نتعلّم اكتشافه في وجه الذين أراد هو نفسه أن يُماثلَهم. في هذه الدعوة إلى التعرّف عليه في الفقراء والمتألّمين، يتجلّى قلبُ المسيح نفسُه وعواطفُه وخياراتُه الأعمق التي يسعى كلُّ قديس لأن يتشبّه بها. فالقداسة لا تُفهم خارجًا عن هذا التعرّف الحي على كرامة كلّ كائن بشريّ، وعن التفاعل مع كل حالة انطلاقًا من إيماني بالله ومن محبتي له. والأمر لا يتوقّف عند القيام ببعض أعمال محبة ورحمة ولكن بالعمل على إصلاح الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية لتكون أكثر عدالةً.

ثم يتكلّم قداستُه عن الإيديولوجيات التي تقود أحيانًا إلى خطأين مؤذيَين. الخطأ الأول عندما يفصل المسيحيون أعمال الرحمة التي يتطلّبُها منهم الإنجيل عن علاقتهم الشخصية مع الرب والاتحاد الحميم معه، فتُصبح المسيحية وكأنها منظمة غير حكومية (ONG). في الواقع، لم تُنقّص الصلاة ولا محبةُ الله ولا قراءة الإنجيل من حماس القديسين أو من فعالية بذل ذواتهم في سبيل القريب.

أما الخطأ الثاني فهو التشكيك في التزام الآخرين الاجتماعيّ، مُعتبرين إياه كشيء سطحيّ، دنيويّ، مُعَلمَن وشيوعيّ وشعبويّ، أو يعتبرونه ذات أهمية نسبيّة مقارنةً مع القضية التي تعنيهم والتي يُدافعون عنها. من القضايا التي يجب الالتزام بها بثباتٍ وحماسٍ، الدفاع عن البريء الذي لم يولَد بعد، والعناية بالفقراء والذين يتخبّطون في الشقاء والاهمال، والذين يُعانون من أشكال العبوديات الجديدة والتهميش، كالإتّجار بالبشر والموت الرحيم وعدم العناية بالمُسنّين. لا يمكننا تصوّر مثالاً للقداسة يتجاهل الظلم الموجود في العالم، حيث يتنعّمُ البعض ويُنفقون الأموال بالذهنية الاستهلاكيّة الحديثة، بينما ينظر الآخرون من الخارج فيما حياتُهم تنسابُ وتنتهي ببؤس.

البعض من الكاثوليك يعتبرون مثلاً قضيّة المُهاجرين موضوعًا ثانويًا مقارنةً مع القضايا المهمّة المتعلّقة بأخلاقيات الحياة. البابا يدعونا إلى أن نضع ذواتنا مكان هذا الأخ الذي يخاطر بحياته ليؤمّن مستقبلاً أفضل لأولاده، ويذكّرُنا بما يطلبه منا يسوع عندما يقول: “كنتُ غريبًا فآويتموني”.

بالرغم من أن الأولوية في حياتنا المسيحية تعود إلى العلاقة مع الله بحياة حميمة ترتكز على الصلاة والعبادة واحترام النظم الخلقية، إلاّ أن المعيار لتقييم حياتنا هو ما نفعله للآخرين، لأن الصلاة يجب أن تُغذّي فينا بذل الذات الذي يُصبحُ تعبيرًا عن العطايا التي يُفيضُها الله علينا. فبحسب القديس توما الأكوينيّ، إن الأعمال التي تُعبِّر أعظم تعبيرٍ عن حبِّنا لله هي أعمال الرحمة نحو القريب. ومن يريد حقًا أن يُمجّدَ الله بحياته وأن يتقدّس لتُصبح حياتُه تمجيدًا للقدوس، مدعوٌ إلى أن يسعى ويذل جهده في محاولة أعمال الرحمة.

إن الذهنية الاستهلاكية تقودنا إلى التمحور بإفراطٍ حول ذواتنا والاستمتاع بكل ما يقدّمه لنا العالم. فإذا لم نمارس بعض الزهد ولم نحارب ضد جشع العقلية الاستهلاكية، لن يمكننا التفكير بالآخرين أو العمل أي شيء لمساعدتهم.

في بداية الفصل الرابع، يذكر قداسة البابا بعض الميزات والتعابير الروحية التي لا يمكن الاستغناء عنها لفهم نمط الحياة التي يدعونا إليها يسوع.

الجلَدُ والصبرُ والوداعة

أولى تلك الميزات الكبرى يقول البابا هي أن نثبت بقوة في الله الذي يُحب ويُساند. بفضل تلك القوة الداخلية، من الممكن أن نصبر ونتحمّل المعاكسات، وبفضلها نُعطي شهادةً للقداسة قائمةً على الصبر والثبات في الخير في وسط عالمٍ متبدّلٍ وعدوانيّ، وبفضل تلك النعمة الداخلية نحقق ما يطلبه بولس الرسول من الرومانيين عندما يدعوهم إلى “ألاّ يُكافئوا أحدًا على شرٍّ بشرّ، وأن يغلبوا الشرَّ بالخير” (روم ١٢، ١٩ و ٢١).

وهذه القوة الداخلية تحمينا من عدوى العنف الذي يغزو الحياةَ الاجتماعية، لأن النعمة تُهدّئ من الغرور وتُمكِّنُ القلبَ من الوداعة. ومن علامات هذه الوداعة، يقول القديس يوحنا الصليب، أن تفرح لما يفعلُه الآخر من خير، كما تفرح من فِعلِك الخاص، وأن ترغبَ في أن يُفضَّلَ الآخرون عليك في كل شيء. بهذه الطريقة، تتغلّبُ على الشرّ بالخير.

ولا يتأصّل التواضع في القلب، يقول البابا، إلاّ عندما نتعلّم تقبُّل الإذلال الذي يُساعدُنا على الاقتداءَ والتشبُّهَ بالرب يسوع.

الميزة الثانية: الفرح وحسّ الفُكاهة

ما سبق وقلناه لا يفترض الحزنَ وروحًا سوداويًا، لأن محبة الله ينتج عنها الفرح: “افرحوا في الرب على الدوام، وأقول أيضًا افرحوا” (فيل ٤، ٤). هذا الفرح أعلنه الأنبياء علامةً للعهد المسيحانيّ، وأكّده الربُ يسوع كعلامةٍ لحضوره في قلوب المؤمنين به.

والفرحُ المسيحيُّ يرافقُه عادةً حسُّ الفكاهة. فالمزاج السيء، يقول البابا، ليس علامةَ قداسة. وهذا الفرح يُعاشُ في الشركة بين الإخوة ويزدادُ بسببٍ من المحبة الأخوية، التي تجعلُنا نسعَدُ للخير الذي يحصل عليه الآخَرون.

الميزة الثالثة: الجرأةُ والحماس

في الوقت عينه، القداسةُ جرأة، وهي تحفيزٌ على إعلان البشرى السارة بالإنجيل بدون خوف. وقد أشار القديس البابا بولس السادس إلى أن قلة الجرأة والحماس هي من العوائق التي تحولُ دون التبشير بالإنجيل.

يقول البابا أن الجرأةَ هي ختمُ الروح وعلامةٌ لصحة البشارة. لذلك تحثُّنا محبةُ المسيح على الانطلاق إلى ما هو أبعد من المعروف، نحو الضواحي والأطراف، إلى البشرية المجروحة، إلى الإنسان الذي لايزالُ يبحثُ عن الجواب لمعنى الحياة. من هنا نفهم أن الكنيسة تحتاج حقًا إلى كهنة مُرسَلين غيورين يلتهمُهم حماسُ نقلِ الحياة الحقيقية.

الميزة الرابعة: في الجماعة

التقديس هو مسيرة جماعية، والحياةُ والعملُ مع الآخرين هو سبيلٌ لتطوّر الروحيّ. لذلك يقول البابا أن الجماعة مدعوةٌ إلى أن توفِّرَ ذلك المكان اللاهوتيّ حيث يمكنُ اختبار حضور الرب القائم من بين الأموات. هذه الجماعةُ الكنسيّة التي تُحافظ على تفاصيل الحب الصغيرة، وحيث أفرادُها يحمي بعضُهم بعضًا ويوفّرون مكانًا مفتوحًا للتبشير بالإنجيل، هي مكانُ حضور القائم من بين الأموات الذي يقدسُها وفقًا لتدبير الآب.

خلافًا للميل إلى الانفرادية الاستهلاكيّة التي توصلُنا إلى التقوقع في البحث عن رفاهيتنا بمعزلٍ عن الآخرين، إن الدربَ إلى القداسة يُذكّرُنا دائمًا برغبة المسيح: “ليكونوا كلُّهم واحدًا، كما أنت فيَّ، أيها الآب، وأنا فيك” (يو ١٧، ٢١).

الميزة الخامسة: الصلاة المتواصلة

أي هذا الانفتاح على الله المتسامي الذي يُعبَّر عنه في الصلاة والعبادة. فالقديس هو شخصٌ أنعم الله عليه بروحِ الصلاة، ويحتاج إلى التواصل مع الله. إنه إنسانٌ يتوقُ إلى الله وسْطَ انشغالاته والتزاماته، ويخرج من ذاته بالتسبيح، ويوسّع حدودَه بالتأمل في الرب. فلا قداسة بدون صلاة، التي هي “علاقة صداقة حميمة، غالبًا ما يُتبادل فيها الحديث وجهًا لوجه مع هذا الرب الذي نعرفُ أنّه يُحبُنا”، كما تقول القديسة تريزا الآفيليّة.

الفصل الخامس: كفاحٌ وتيقّظٌ وتمييز

في الفصل الخامس والأخير يقول البابا أن الحياة المسيحيّة هي كفاحٌ مستمرّ، وتلزمُنا القوة والشجاعة لمقاومة تجارب إبليس وللتبشير بالإنجيل. هذا الصراع جميلٌ للغاية، لأنه يسمح لنا بالاحتفال، كلَّ مرة، بالرب المنتصر في حياتِنا.

وهنا يوضح قداستُه أن الجهاد ليس ضدّ العالم وذهنيتِه أو ضدّ ميولِنا وهشاشتِنا وحسب، بل إنه صراعٌ ضدّ الشيطان، رئيس الشر. وهذا الشيطان لن نقبلَ بوجوده إذا اكتفينا بالنظر إلى الحياة انطلاقًا من المعايير العملانيّة وبدون الحسّ الفائق الطبيعة. فاليقين من أن سلطان الشر موجودٌ بيننا، هو ما يسمح لنا بأن نفهم لماذا يملك الشرُّ أحيانًا هذا القدر من القوّة الهدّامة.

فلا نظنّ إذًا أن الشيطانَ خرافةٌ أو رمزٌ أو فكرة. هذا الخطأ يقودُنا إلى الاستسلام، وإلى عدم التيقّظ، وبالتالي إلى أن نكونَ أكثر عُرضةً. لا حاجة له أن يستحوذَ علينا، بل يُفسِدُنا بالبُغض والحزن والشهوة والعيوب. فإذا قلّلنا من التنبّه، يغتنم الفرصة كي يهدم حياتَنا وعائلاتِنا وجماعاتِنا، لأنه “كالأسد الزائر، يجولُ طالبًا من يبتلعُه” (١ بط ٥، ٨).

يقظون وواثقون

تدعونا كلمةُ الله بوضوح إلى أن “نقاوم مكايد إبليس” (أف ٦، ١١)، وإلى أن نُطفئ “جميع سهام الشرير المُلتهبة” (أف ٦، ١٦). هذا يعني أن طريقَنا نحو القداسة هو صراعٌ مُستمر. والأسلحة التي يُعطينا إياها الرب هي الإيمان الذي نعيشُه في الصلاة والتأمل في كلمة الله وفي الافخارستيا وسائر الأسرار، ولن نستطيع الصمود إذا اكتفينا بالقليل.

الفساد الروحيّ

طريق القداسة ينبوع سلام وفرح يهبُنا إياها الروح. ولكن المسيح يطلب منّا التيقّظ والسهر. لأن الذين يظنّون أنهم لا يقترفون خطايا جسيمة ضدّ وصايا الله، يقعون في نوع من السُبات. وبما أنهم لا يجدون شيئًا خطيرًا يلومون به أنفسَهم، لا يرون ذاك الفتور الذي يستولي على حياتهم الروحية. فالفساد الروحيّ هو أسوأ من سقوط الخاطئ لأن الأمر يقود إلى العمى المُريح حيث يُصبح كلُّ شيءٍ مُحلّلاً: الخداع والافتراء والأنانية.

التمييز

التمييز هو هبة نطلبُها من الله ومن الروح القدس في الصلاة. بالفعل، إن الحياة الحاضرة تعرض أمامنا مجالات عديدة وكأنها جميعَها مقبولة وصالحة. بدون حكمة التمييز نُصبح بسهولة دُمى تحت رحمة ميول الوقت الراهن. كي نُميّز ما هو صالح، نحتاج إلى حرية يسوع ونورِه: “امتحنوا كلَّ شيء وتمسّكوا بما هو حسنٌ” (١ تس ٥، ٢١).

هذا التمييز هو هبة فائقة الطبيعة نطلبها في الصلاة. ففي ضوء كلام الرب نحن مدعوون إلى أن نتحاور يوميًا مع الرب الذي يُحبُنا. ولكي يكون الحوار مُجديًا يجب أن نتعلّم الاصغاء له والطاعة للإنجيل كمعيارٍ أسمى.

وفي الختام يسأل قداسُه شفاعة العذراء مريم التي عاشت تطويبات الرب يسوع؛ فهي تدلُّنا على طريق القداسة وتُرافقنا في المسيرة.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

فيوليت حنين مستريح

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير