في خضمّ كلّ ما نمرّ به في هذه الظّروف الصّعبة، ولاسيّما في زمن الوباء، أردت أن أتأمّل معكم بوجه “يسوع الشّافي” وبمشروع الله في خلقه للإنسان. فيسوع أتى ليخلّص كلّ النّاس وكلّ الإنسان. وكم وكم من الشّفاءات صنع ابن الله، خلال وجوده على أرضنا؟ حتّى أنّه، عندما أتى إليه تلاميذ يوحنا وسألوه باسم معلّمهم، “أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟” – يخبرنا الإنجيليّ – أنّه، “في تلك السّاعة شفى يسوع أناسًا كثيرين من الأمراض والعلل والأرواح الخبيثة، ووهب البصر لكثيرٍ من العميان، ثمّ أجابهما: إذهبا فأخبرا يوحنا بما سمعتما ورأيتما؛ العميان يُبصرون، والعرج يمشون والبرص يبرأون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والفقراء يُبشّرون. طوبى لمن لا أكون له حجر عثرة” (لو7: 19-23). فالله إذًا يريد شفاء الإنسان، ولكن ليس شفاءه الجسدي وحسب، بل النّفسي والرّوحي أيضًا. فنجده يقول للمُقعَد قبل أن يشفيه “يا بنيَّ، مغفورةٌ لك خطاياك… ثمّ قال له: أقول لك، قُمْ فاحمل فراشك واذهب إلى بيتك” (مر 2: 5 و11). فالله إذاً، يريد عودة الإنسان إليه وتوبته أوّلاً. إنّه لا يريد موت الخاطئ بل أن يخلّصه. وهو القائل في سفر النّبي حزقيال “ألعلّ هوايَ في موتِ الشّرير؟ أليس في أن يتوب عن طُرُقِه فيحيا؟” (حز 18: 23).
إنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله (تك 1: 26-27)، خلقه بصحّة جيّدة ويريد له الصّحة والحياة. فليس من المبالغة أن نقول أنَّ مشيىة الله هي صحّة الإنسان وعلى كلّ الأصعدة. ونجد في العهد القديم بعض الشّفاءات التي تمّت بتدخّلات إلهيّة. أمّا في العهد الجديد فلم تُترك صفحةٌ إلاّ وتخبرنا عن الشّفاءات والآيات الّتي قام به السّيد المسيح خلال رسالته العلنيّة[1]، كما أنّه أسّس سرّاً من الأسرار السبعة لخدمة “سرّ” شفاء المرضى وحضور الله بينهم أسراريًا.
وإذا عدنا الى مضامين هذه النّصوص، نجد في صلوات رتبة “مسحة المرضى”، أنّ هَمَّ الكنيسة ينصبّ على شفاء الإنسان بكلّ أبعاده الروحي والنفسي والجسدي. “يا شافي جميع الأمراض وضامد كلّ الجراح، يا من شفيت المخلّع من سقمه، والنّازفة من ضيقتها، أيّها الرّب الّذي أعطيت رسلك القدّيسين السّلطان وقلت لهم: باسمي تخرجون الشّياطين، وتشفون المرضى، وتفتقدون المتضايقين، انت يا ربّ، بنعمتك وبمراحمك الغزيرة، أرسل الصحّة والشّفاء والفرج والعزاء والنّشاط، لعبدك هذا…، وعافِ كلّ قوّة العدو، وإذ يصبح معافى بنفسه وجسمه، وثابتًا بروحه، ومحتفظًا بإيمانه، يُعد عليك المجد وعلى أبيك وروحك الحيّ القدّوس، الآن وإلى الأبد” (رتبة مسحة المرضى). وتعلّمنا أمّنا الكنيسة في “كتاب التَعلِيم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة” حول ذلك فتقول: بأنّ “الرّب يسوع المسيح، طبيب نفوسنا وأجسادنا الّذي غفر للمُقعد خطاياه وأعاد إليه صحّة البدن (را، مر 2: 1-12)، أراد لكنيسته أن تواصل، بقوّة الرّوح القدس، عمل الشفاء والخلاص حتى لأعضائها أنفسهم. وهذا ما يهدف إليه سرّا الشّفاء: سرّ التوبة وسرّ مسحة المرضى” (عدد 1421).
ولكنّ ذلك، لا ينفي أهميّة دور الطّبيب لا بل يكمّله. وفي أزمتنا اليوم نجد هذه الأهميّة الكبرى للجسم الطّبي الّذي هو نعمة من الله لنا، وبفضلهم قد تعافى الكثيرون. والكتاب المقدّس بالذّات، يُضيء على هذه الأهميّة الرّاسخة. ففي سفر يشوع بن سيراخ نجد الآيات التّالية: “أدِّ للطّبيب كرامته لأجل خدماته، فإنّ الرّب خلقه هو أيضًا، لأنّ الشّفاء من عند العليّ، ومن المَلك ينال الطّبيب العطايا. عِلم الطّبيب يُعلي رأسه، فيُعجبُ به عند العظماء. الرّب أخرج الأدوية من الأرض، والرّجل الفطن لا يستخفّ بها. أليس بعودٍ صار الماءُ عذبًا، حتّى عُرفَت خاصيَّتُه؟ وهو الّذي أعطى النّاس المعرفة، ليتمجّدوا في عجائبه. بالأدوية يَشفي ويُزيل الأوجاع، ومنها يصنع الصّيدليُّ أمزجةً، وأعمالُه لا نهاية لها، وعن يده تحلّ السّلامة على وجه الأرض. يا بنيّ، إذا مرِضت فلا تتهاون، بل صلِّ إلى الرّب فهو يشفيك” (سي 38: 1-9). ثمّ يضيء على التّكامل بين البعد الرّوحي والعلمي، فيقول: “أقلع عن ذنوبك واجعل يديك مستقيمتين، وطهّر قلبك من كلّ خطيئة… راجع الطّبيب فإنّ الرّب خلقه هو أيضًا، ولا يفارقك فإنّك تحتاج إليه. في بعض الأحوال تكون العافية في أيديهم، فهم ايضًا يتضرّعون إلى الرّب أن يُنجح عملهم على الرّاحة والشّفاء، من أجل إنقاذ الحياة. من خطئ أمام صانعه، فليقع في يدي الطّبيب” (سي 38: 10-15). فللعلوم إذًا دورها في الشّفاء، وللحياة الرّوحيّة أيضًا دورها. لذلك يتطلّب فنّ مرافقة الأشخاص، مع الإعتناء بصحّتهم، الحكمة والمعرفة والتمييز، بعيدينَ عن كلّ تهوّر، وسطحيّة.
وكذلك، أعطى آباء الكنيسة بدورهم أهميّة لدور الطّب والعلوم. فنجد لدى أوريجينوس مثلاً، العديد من الإستشهادات الّتي يتحدّث من خلالها عن دور الطّب فيقول: “أعتقد أنه لا يوجد شك حيال موضوع الطّب، إذا كان هناك علم من الله، فما هو العلم الآخر الذي سينتج منه، إن لم يكن علم الصحة الذي من خلاله يمكننا تمييز دور فضائل الأعشاب، عن اختلافات الحالات المزاجية“[2].
فمن غير المقبول لاهوتيًا وإيمانيًا أن نقول، أنّ الله أراد لي هذا المرض، دون أن نُهمل قول القدّيس بولس “بأنّنا على يقين بأنّ الله “يحوّل كل شيء لخير الّذين يحبّونه” (رو8: 28 ). ومع هذا الإيمان الّذي لا يتناقض مع العقل، ولمن يريد تعميق فكره بهذا الموضوع ننصح بقراءة الرّسالة الجامعة للبابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني Fides Et Ratio حول العلاقة بين الإيمان والعقل[3]، إذ يجب علينا، نحن المسيحيّين، أن نجاهد أيضًا، وبشتّى الطّرق وكلّ الوسائل المتاحة، من أجل الشّفاء الكامل الجسديّ والنّفسيّ والرّوحيّ. وهذا لا يتعارض بالطّبع مع الإيمان كما سبق وأشرنا آنفًأ. لقد كان الطّبيب سياغيل (Siegel) يُقدّم دائمًا النّصح لمرضاه، قائلاً “أقترح على مرضاي، بألاّ يفكّروا في المرض على أنّه أمر ناتج عن مشيئة الله، ولكن كنتيجة تَخَلِّينَا وبُعْدِنَا عن مشيئته”[4].
الصّلاة إذاً بأنواعها المتعدّدة، إن كانت ليتورجيّة أو شخصيّة، (راجع الصّلاة، في تعليم الكنيسة-الجزء الرّابع)، تساعدنا إذا كنّا مؤمنين لنخلق علاقة صداقة مع الله، الّذي أحبّنا من قبل إنشاء العالم. وشعورنا بالمحبّة هو شعور يشفينا من جروحات عديدة ويقوّي لدينا جهاز المناعة الّذي يؤثّر طبيّا على صحّتنا. إنَّ الله الّذي خلقنا على صورته ومثاله خلقنا وخلق معنا ما يسمّى بجهاز المناعة، ما يدلّ على أنّ الله يريدنا أن نكون أصحّاء. وكشفت الدراسات أنّ التعصيب stress يمكنه خلق الخلل بهذا التوازن الطبيعي فيعرقل عمل هذا الجهاز ويُضعفه[5]. لذلك فاللجوء إلى الصّلاة والتّأمل يساعدان الإنسان على تعميق علاقته وصداقته مع الله، كما وعلى تقوية جهاز المناعة لديه، فيكون بذلك صحيح الرّوح والعقل. وأختم باستشهادٍ من المجمع الفاتيكاني الثّاني الّذي يعتبر أنّه “في الرّعائيّات يجب ألاّ تُعرف معرفة كافية مبادئ اللاّهوت وحسب، بل يجب الإلمام بالإكتشافات العلميّة الدّنيويّة، لا سيّما علم النّفس والإجتماع، وذلك لكي يستخدموها؛ وبهذه الطّريقة يتوصّل المؤمنون بدورهم إلى حياة إيمان أكثر نقاوة وأشدّ نضجًا” (فرح ورجاء 62/ 2).
[1] راجع، مت 4: 23؛ لو 5: 15؛ لو 8: 43-44؛ حتّى أنّ يسوع في إجابته على سؤال يوحنّا المعمدان عبر تلاميذه، أأنت المسيح أم ننتظر آخر، اتى جوابه من خلال شفاءات وأعاجيب (لو 7: 19-22)؛ مر 16: 15. 17-18.
[2] Origene, Omelia sui Numeri XVIII, 3. “Credo che non ci siano dubbi riguardo alla medicina, se c’e una scienza da Dio, quale altra scenza procedera da Lui se non la scienza della salute, mediante la quale si distinguono le virtu delle erbe, le qualita e le differenze degli umori”.
[3] البابا يوحنا بولس الثّاني، رسالة جامعة في الإيمان والعقل FIDES ET RATIO من قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى اساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة في العلاقات بين الإيمان والعقل، حاضرة الفاتيكان، 14 أيلول سنة 1998.
[4] B. Siegel, Love. Medicine and Miracles, Harper and Row, New York 1990, p. 178-179.
[5] Gonzalez L.-J., Pregare per guarire, Modalità semplici avallate dalla medicina, OCD, Roma 20102, p. 8.