(من كتاب: الأب كابي ألفرد هاشم و الأب غي-ريمون سركيس، أؤمن… وأعترف قراءة معاصرة في الإيمان المسيحي، دراسات لاهوتيّة، دار المشرق 2014).
إلاّ أنّ واقع العالم أتى مخالفًا لهذا الاعتقاد، إذ نجد أنّ الكثيرين من الأشرار يتنعّمون بحياة بحبوحةٍ، وفيما كثيرون من أتقياء الله يغرقون في المصائب. وقد سبّب هذا الواقع مذاق المرارة في قلوب المؤمنين ولا سيّما الأنبياء. فقد صرخ النبيّ إرميا يومًا إلى الله مشتكيًا: ” أَبَرُّ أَنتَ يا رَبُّ مِن أَن أَتَّهِمَكَ لَكِنِّي سأَتَكَلَّمُ معكَ بما هو حَقّ. لِماذا يَنجَحُ طَريقُ الأشْرار ويَطمَئِنُّ جَميعُ الغادِرينَ غَدرًا؟ ” (إرميا 12: 1). ومع مرور الزمن، اختبر الشعب وفهم أنّه ” من المستحيل أن يكون للظلم في التاريخ الكلمة النهائية “[1]، فآمنوا أنّ الله الذي خلقهم هو يقيمهم من الموت ليعطي كلاًّ من الناس ما يستحقّ. وحين احتلّ أنطيوخس اليونانيّ بجيشه مدينة أورشليم، في القرن الثاني قبل تجسّد المسيح، وحاول أن يفرض على شعب الله أمورًا تناقض وصايا الله، تصدّاه عددٌ من المؤمنين وفي طليعتهم الإخوة المكّابيين الذين فضّلوا الموت على المساومة بشريعة الله. وفيما كان الإخوة يُقتَلون أمام عينَي الملك، قال له أحدهم: ” إنَّكَ أَيُّها المُجرِمُ تَسلُبُنا الحَياةَ الدُّنيا، ولَكِنَّ مَلِكَ العالَم، إِذا مُتْنا في سَبيلِ شَرائِعِه، سيُقيمُنا لِحَياةٍ أَبَدِيَّة ” (2ملوك 7: 9). أمّا الوالدة التي كانت أمام استشهاد أولادها، فكانت تشجّعهم قائلةً: ” لَستُ أَعلَمُ كَيفَ نَشأتُم في أَحْشائي، ولا أَنا وَهَبتُكمُ الرُّوحَ والحَياة، ولا أَنا نَظَّمتُ عَناصِرَ كُلٍّ مِنكم. ولِذلك فإِنَّ خالِقَ العالَم، الَّذي جَبَلَ الجِنسَ البَشَرِي والَّذي هو أصلُ كُلِّ شَيَء، سيُعيدُ إلَيْكم بِرَحمَتِه الرُّوحَ والحَياة، لِأَنَّكم تَستَهينونَ الآن بِأَنفُسِكم في سَبيلِ شَرائِعِه ” (2ملوك 7: 22-23).
على ضوء هذا الإيمان الجديد راح الأنبياء يعلنون عن الدينونة وعن حلول ” يوم الربّ “. إلاّ أنّهم تصوّروا هذه الدينونة على شاكلة الدعاوى والمحاكم الأرضيّة، واعتمدوا في أحاديثهم إخافة الأشرار علّهم يرتدعون عن فعل السيّئات وارتكاب الظلم: ” ويَلٌ لِلتَّوَّاقينَ إِلى يَوم الرَّبّ. ماذا يَكونُ لَكم يَومُ الرَّبّ؟ يَكونُ ظُلمَةً لا نورًا. كإِنْسانٍ يَهرُبُ مِن وَجهِ الأَسَد فيَلْقاه الدُّبّ، فيَدخُلُ البَيتَ ويُسنِدُ يَدَه إِلى الحائِط فتَلحَسُه الحَيَّة. أَلَيسَ يَومُ الرَّبِّ ظُلمَةً لا نورًا؟ بل هو مُظلِمٌ لا ضِياءَ لَه ” (عاموس 5: 18-20) ومنذ ذلك الحين انطبعت صورةٌ مخيفة عن هذه الدينونة في أذهان البشر وارتبط يوم الربّ بيوم عقاب الخطأة والأشرار حين ” يُجْري الله الحُكْمَ لِلبائسين والقَضاءَ لِلمَساكين ” (مزمور 140: 13). إلاّ أنّ صورة الدينونة في الإيمان المسيحيّ هي ” قبل كلّ شيءٍ لا صورةٌ مُرعِبة بل صورة رجاء: ويمكننا القول إنّها الصورة الحاسمة للرجاء… الله عادل وخالق للعدالة. هنا تعزيتنا وهنا رجاؤنا. إنمّا في عدالته تكمن أيضًا النعمة “[2].
[1] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامّة “خُلِّصنا بالرجاء”، 43.
[2] بندكتس السادس عشر، خُلِّصنا بالرجاء، 43.