(من كتاب: الأب كابي ألفرد هاشم و الأب غي-ريمون سركيس، أؤمن… وأعترف قراءة معاصرة في الإيمان المسيحي، دراسات لاهوتيّة، دار المشرق 2014).
عندما بدأ يسوع رسالته العلنيّة نادى قائلاً: ” توبوا؛ فإِنَّ ملكوتَ السماواتِ قريب ” (متّى 4: 17). وقد نبّه مرارًا إلى أنّ هذا الملكوت، الذي يتحقّق بشخصه، ليس ملكوتًا زمنيًّا أو أرضيًّا أو سياسيًّا كما كان يظنّ الكثيرون من أبناء شعبه، بل هو ملكوتٌ روحيّ أشبه بوليمة العرس[1] يتذوّق فيه البشر السعادة المطلقة بمعاينة الله. فنحن ” الآنَ نَنْظُرُ في مِرآةٍ، في إِبْهام؛ أَمّا حِينئذٍ فَوَجْهًا الى وَجْه ” (1كورنثس 13: 12). ليس هذا الملكوت ” إسقاطًا لمثال أخوّة إنسانيّة أو مجتمعٍ خياليّ يخلو من الطبقات الاجتماعيّة والفوارق الاقتصاديّة. بل هو المسيح “[2]. إنّه موطن البشر الحقيقيّ! وقد حثّ بولس المؤمنين على وضعه دومًا نصب أعينهم: ” أطلُبوا إِذنْ ما هو فَوقُ، حَيثُ يُقيمُ المسيحُ جالسًا عَن يَمينِ الله. اهتمُّوا لما هُوَ فَوقُ، لا لِما هُوَ على الأَرضِ، لأَنَّكم قد مُتُّم للعالَمِ وحَياتُكم مُسْتَتِرةٌ مَعَ المسيحِ في الله ” (كولوسي 3: 1-3).
إنّ ممالك الأرض تُقام بالقوّة وتثبت بالعنف ولكنّها لا تدوم. أمّا ملكوت الله فهو مسكن الله مع الناس، وعندها ” يَمسَحُ كلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيوِنِهم؛ ولا يكونُ بَعدُ مَوتٌ، ولا نَوْحٌ، ولا نَحيبٌ ولا وَجَعٌ، لأَنَّ الأوضاعَ الأُولى قد مَضَت ” (رؤيا 21: 4). هو الملكوت حيث الله هو الكّل في كلّ شيء[3]، وحيث يزول الألم و الظلم وتختفي النواقص، وتبلغ الحياة ملأها، وتبقى جديدةً لا تشيخ، وحيث يملك الله وحده بعد أن يبيد كلّ ما يُحزن الإنسان: ” وآخِرُ عَدُوٍّ يُلاشى هُوَ المَوت ” (1كورنثس 15: 26). وإنّ إلتئام الجماعة المؤمنة حول مائدة الإفخارستيا استباقٌ منذ الآن لهذا الملكوت المسيحانيّ إذ يجلس الجميع إلى مائدة الله ويتّحدون به اتّحادًا سريًّا لا بدّ وأن يكتمل في آخر الزمن. فقد جاء في كتاب الديداخيه، أي كتاب تعليم الرسل، المنسوب إلى القرن الأوّل بعد المسيح: ” وكما كان هذا الخبز المكسور قمحًا مبعثرًا على التلال والجبال ثم جُمع في واحدٍ، هكذا اجمع كنيستك من أقاصي الأرض في ملكوتك “[4]. ولا تني البشريّة تنتظر بفارغ الصبر حلول ملء هذا الملكوت في الزمن، وحتّى يحين ذلك الأوان، ” الرُّوح والعروس يبتهلان: “هَلُمَّ! ” (رؤيا 22: 17).
[1] متّى 22: 1
[2] J. RADERMAKERS, La Bonne Nouvelle de Jésus selon Saint Marc, Tome 2, Bruxelles, Institut d’Études Théologiques, 1997, 291.
[3] 1كورنثس 15: 28
[4] تعليم الرسل (الديداخيه)، 9، 4.