Timothy Schmalz - "Angels Unawares" © Vatican Media

يوم المهاجر واللاجىء: على مثال القدّيس يوسف، مُجبرون على الهرب لإنقاذ الطفل

النصّ الكامل لرسالة قداسة البابا فرنسيس
بمناسبة اليوم العالمي المئة والسادس للمهاجرين واللاجئين

Share this Entry

رسالة قداسة البابا فرنسيس

بمناسبة اليوم العالمي المئة والسادس للمهاجرين واللاجئين

27 سبتمبر/أيلول 2020

مثل يسوع المسيح، مُجبَرون على الهروب.

استقبال النازحين وحمايتهم ودعمهم ودمجهم

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

ذكرت في مطلع هذا العام، ضمن الكلمة التي وجّهتها إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، مأساةَ النازحين من بين تحدّيات العالم المعاصر: “النزاعات وحالات الطوارئ الإنسانية التي تفاقمت بسبب الاضّطرابات المناخية والتي تزيد من عدد المشرّدين وتنعكس على الأشخاص الذين يعيشون في فقر فادح. فالعديد من البلدان المتضرّرة من هذه الحالات تفتقر إلى الهيكليّات المناسبة التي تسمح بتلبية احتياجات النازحين” (9 يناير/كانون الثاني 2020).

وقد نشر قسم المهاجرين واللاجئين التابع لدائرة التنمية البشرية المتكاملة “المبادئ التوجيهية الرعوية بشأن النازحين” (الفاتيكان، 5 مايو/أيار 2020)، وهي وثيقة تهدف إلى إلهام وإحياء الأعمال الرعوية للكنيسة في هذا المجال بالذات.

لهذه الأسباب، قرّرت أن أكرّس هذه الرسالة لمأساة النازحين، وهي مأساة غالبًا ما تكون خفيّة، وقد تفاقمت أكثر بفعل الأزمة العالمية التي تسبّبها جائحة فيروس الكورونا. في الواقع، هي الأزمة التي بفعل شدّتها وخطورتها ومداها الجغرافي، قد قلّصت العديدَ من حالات الطوارئ الإنسانية الأخرى التي أصابت ملايين الناس، مما أدّى إلى وضع المبادرات والمساعدات الدولية، الضرورية والعاجلة لإنقاذ الأرواح، في آخر البرامج السياسية الوطنية. لكن “ليس الوقت وقت النسيان. إنّ الأزمة التي نواجهها الآن، لا يجب أن تُنسينا العديد من حالات الطوارئ الأخرى التي تحمل معها معاناة الكثير من الناس” (رسالة البابا إلى مدينة روما والعالم، 12 أبريل/نيسان 2020).

في ضوء الأحداث المأساوية التي ميّزت العام 2020، أوجّه هذه الرسالة، المخصّصة للنازحين، أيضًا إلى جميع الذين عاشوا وما زالوا يعيشون خبرة عدم الاستقرار والتخلّي والتهميش والرفض بسبب فيروس الكورونا.

أودّ أن أبدأ من الأيقونة التي ألهمت البابا بيوس الثاني عشر في صياغة الدستور الرسولي عائلة الناصرة في المنفى (1 أغسطس/آب 1952). أثناء هروبهم إلى مصر، اختبر الطفل يسوع، مع والديه، حالة النازحين واللاجئين المأساوية “التي اتّسمت بالخوف وعدم اليقين والمصاعب (را. متى 2، 13- 15 .19- 23). للأسف إنّ ملايين العائلات، في أيامنا هذه، تستطيع التعرّف على نفسها في هذا الواقع المحزن. ينقل التلفاز والصحف، كلّ يوم تقريبًا، أخبارًا عن اللاجئين الذين يهربون من الجوع والحرب ومن أخطار أخرى بحثًا عن الأمن والحياة الكريمة لأنفسهم ولأسرهم” (صلاة التبشير الملائكي، 29 ديسمبر/كانون الأول 2013). إنّ يسوع هو حاضر في كلّ واحد منهم، ومُجبرٌ، كما في زمن هيرودس، على الفرار كي ينقذ حياته. ونحن مدعوّون للتعرّف، في وجوههم، على وجه المسيح الجائع، والعطشان، والعريان، والمريض، والغريب، والسجين، الذي يستحثّنا (را. متى 25، 31- 46). وإذا تعرّفنا عليه، فسوف نشكره لأننا استطعنا أن نقابله، ونحبّه ونخدمه.

إنّ النازحين يقدّمون لنا فرصةَ اللقاء بالربّ يسوع، “حتى لو وجَدَت أعيننا صعوبة في التعرّف عليه: بملابسه الممزّقة، وأقدامه المتّسخة، ووجهه المشوّه، وجسده المجروح، غير قادر على التحدّث بلغتنا” (عظة البابا، 15 فبراير/شباط 2019). إنه تحدٍّ رعوي نحن مدعوّون للردّ عليه بالأفعال الأربعة التي أشرت إليها في الرسالة بمناسبة هذا اليوم نفسه لعام 2018: استقبال، وحماية، ودعم، ودمج. وأودّ الآن أن أضيف عليها ستة أزواج من الأفعال التي هي أفعال ملموسة للغاية، مرتبطة ببعضها البعض في علاقة سببيّة.

علينا أن نعرف الآخر كي نفهمه. معرفة الآخر هي خطوة ضرورية نحو فهمه. هذا ما قام به يسوع نفسه في رواية تلميذي عمواس: “وبَينَما هُما يَتَحَدَّثانِ ويَتَجادَلان، إِذا يسوعُ نَفْسُه قد دَنا مِنهُما وأَخذَ يَسيرُ معَهما، على أَنَّ أَعيُنَهُما حُجِبَت عن مَعرِفَتِه” (لو 24، 15- 16). عندما نتحدّث عن المهاجرين والنازحين، غالبًا ما نتوقّف عند الأرقام. لكن الأمر لا يتعلّق بالأرقام، بل بالأشخاص! إذا التقينا بهم فسوف نتوصّل لمعرفتهم. وإذا عرفنا قصصهم فسوف نتمكّن من فهمهم. وسنفهم، على سبيل المثال، أن عدم اليقين الذي عانينا منه بسبب الجائحة هو عنصر ثابت في حياة النازحين.

من الضروري أن نتقرّب منهم كي نخدمهم. يبدو الأمر وكأنه من المسلّمات، ولكنه غالبًا ما يكون غير ذلك. “وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتًا وخَمرًا، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه” (لو 10، 33- 34). إن المخاوف والأحكام المسبقة -العديد من الأحكام المسبقة- تبقينا بعيدين عن الآخرين وغالبًا ما تمنعنا من أن “نتقرّب” منهم وأن نخدمهم بمحبّة. فالتقرّب من الآخرين غالبًا ما يعني أن نكون على استعداد للمخاطرة، كما علّمنا العديد من الأطبّاء والممرّضين في الأشهر الأخيرة. وهذا التقرّب بهدف الخدمة، يتجاوز مجرّد الشعور بالواجب؛ فقد ترك لنا يسوع أعظم مثال عندما غسل أقدام تلاميذه: خلع ملابسه وركع وأوسخ يديه (را. يو 13، 1- 15).

كي نتصالح يجب أن نصغي. هذا ما يعلّمنا إياه الله نفسه الذي أراد، من خلال إرسال ابنه إلى العالم، أن يصغي إلى أنين البشرية بأذني الإنسان: “إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم” (يو 3، 16- 17). إنّ الحبّ، الذي يصالِح ويخلِّص، يبدأ بالإصغاء. لقد تكاثرت الرسائل في عالم اليوم، لكننا نفقد القدرة على الإصغاء. ولكننا لا نستطيع أن نتصالح حقًّا إلّا من خلال الإصغاء المتواضع واليقظ. خلال عام 2020، ساد الصمتُ في شوارعنا مدّة أسابيع. صمتٌ مأساوي ومثير للقلق، لكنه قد أتاح لنا الفرصة للإصغاء إلى صرخة الضعفاء والنازحين وكوكبنا السقيم للغاية. ومن خلال الإصغاء، لدينا فرصة للمصالحة مع القريب، ومع العديد من الأشخاص المستبعدين، ومع أنفسنا ومع الله، الذي لا يتعب أبدًا من منحنا رحمته.

كي ننمو من الضروري أن نشارِك. إن أحد العناصر التأسيسيّة للجماعة المسيحيّة الأولى كان المشاركة: “كانَ جَماعَةُ الَّذينَ آمَنوا قَلبًا واحِدًا ونَفْسًا واحِدة، لا يَقولُ أَحدٌ مِنهم إِنَّه يَملِكُ شَيئًا مِن أَموالِه، بل كانَ كُلُّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم” (رسل 4، 32). لم يُرد الله أن تفيد مواردُ كوكبنا البعضَ فقط. لا، لم يرد الربّ هذا! يجب أن نتعلّم المشاركة لكي ننمو معًا، دون أن نترك أحدًا خارجًا. لقد ذكّرتنا الجائحة كيف أننا جميعًا على نفس القارب. وقد بيّنت لنا مجددًا الهمومُ والمخاوفُ المشتركة أنه ما من أحد ينقذ نفسه بنفسه. كي ننمو حقًا، يجب أن ننمو معًا، ونتشارك ما لدينا، مثل ذلك الصبي الذي قدّم إلى يسوع خمسة أرغفة من شعير وسمكتين… فأشبع خمسة آلاف شخص (را. يو 6، 1- 15)!

يجب أن نُشرِك الآخرين كي نساعدهم. هكذا فعل يسوع في الواقع مع المرأة السامرية (را. يو 4، 1- 30). اقترب الربّ يسوع منها، واستمع إليها، وحدّث قلبَها، كي يقودها من ثمّ إلى الحقيقة ويحوّلها إلى مبشّرة بالخبر السارّ: “هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح؟” (آية 29). إنّ اندفاعنا لخدمة الآخرين يمنعنا أحيانًا من رؤية غناهم. إذا أردنا حقًا تعزيز الأشخاص الذين نقدّم لهم المساعدة، فيجب علينا أن نجعلهم يشاركون ويلعبون دورًا أساسيًّا في إنقاذهم الشخصي. فقد ذكّرتنا الجائحة بمدى أهمّية المسؤولية المشتركة، وأنه فقط من خلال مساهمة الجميع -حتى من الفئات التي غالبًا ما نقلّل من شأنها- يمكننا مواجهة الأزمة: علينا “التحلّي بالشجاعة من أجل إيجاد مساحات يستطيع الجميع فيها أن يشعر أنه مدعوّ، ومن أجل خلق أشكال جديدة من الضيافة والأخوّة والتضامن” (صلاة البابا في ساحة القديس بطرس، 27 مارس/آذار 2020).

من الضروري أن نتعاون كي نبني. هذا ما يوصي به بولس الرسول إلى أهل قورنتس: “أُناشِدُكُم، أَيُّها الإِخوُة، باِسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح، أَن تقولوا جَميعا قَولاً واحِدًا وأَلاَّ يَكونَ بَينَكُمُ خِلاقات، بل كُونوا على وِئامٍ تامّ في رُوحٍ واحِدٍ وفِكرٍ واحِد” (1 قور 1، 10). إنّ بناء ملكوت الله هو عمل مشترك لجميع المسيحيين، ولهذا فمن الضروريّ أن نتعلّم كيف نتعاون، دون أن نسمح للغيرة والخلافات والانقسامات بأن تجرّبنا. وفي السياق الحالي، يجب إعادة التأكيد على أنه “ليس الوقت وقت الأنانية، لأن التحدّي الذي نواجهه يُوحِدنا جميعًا ولا يفرّق بين الناس” (رسالة البابا إلى مدينة روما والعالم، 12 أبريل/نيسان 2020). وكي نحافظ على بيتنا المشترك ونجعله يشبه أكثر فأكثر تدبير الله الأصلي، يجب أن نعمل على ضمان التعاون الدولي والتضامن العالمي والالتزام المحلّي، دون استبعاد أيّ شخص.

أودّ أن أختتم بصلاة مستوحاة من مثال القدّيس يوسف، خاصّة عندما اضطرّ للهروب إلى مصر كي ينقذ الطفل.

أيها الآب، لقد عهدت إلى القديس يوسف بأثمن ما كان لديك، بـ”الطفل وأمه”، لحمايتهما من الأخطار ومن شرّ الأشرار.

امنحنا نحن أيضًا أن نحظى بحمايته وعونه. هو الذي اختبر معاناة الذين يهربون بسبب كراهية الطغاة، أعطه أن يعين ويحمي جميع الإخوة والأخوات الذين يُضطرّون، بسبب كراهية الحروب والفقر والعوز، إلى ترك منازلهم وأوطانهم والرحيل كلاجئين إلى أراضٍ أكثر أمانًا.

ساعدهم، بشفاعته، حتى يجدوا القوّة على المضيّ قدمًا، والعزاء في الحزن، والشجاعة في المحنة.

امنح الذين يستقبلونهم نفس حنان هذا الأب البار والحكيم الذي أحبَّ يسوع كما لو كان ابنه، وعضد مريم على طول الطريق.

عسى أن يكون القدّيس يوسف، الذي هو شفيع الفقراء، عونًا للذين حرَمَتْهم الحياة من كلّ شيء، فيمنحهم عزاء المحبّة، وطمأنينة الدار.

نلتمسه منك بشفاعة يسوع الذي أنقذه القدّيس يوسف بهروبه إلى مصر، وبشفاعة مريم التي، حبًّا بها، تركَ كلّ شيء من أجل أن يتمّم مشيئتك. آمين!

أعطي في روما، قرب القدّيس يوحنا اللاتيراني، 13 مايو/أيار 2020، في ذكرى الطوباوية مريم العذراء سيّدة فاطمة.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2020


© Copyright – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير