أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
نتابع التعليم المسيحي في الصلاة، ونتأمل اليوم في سر الخلق. فحياتنا، أو مجرّد وجودنا، يفتح قلب الإنسان على الصلاة.
تشبه الصفحة الأولى من الكتاب المقدس نشيدَ شكر عظيم. تتخلل رواية الخلق نغمة متكررة، تؤكد باستمرار على صلاح الخليقة وجمالها. يدعو الله، بكلمته، كل شيء إلى الوجود، وبها ينال كلُّ شيء وجودَه. بالكلمة، يفصل الله الضوء عن الظلام، ويتعاقب الليل والنهار، وتتناوب الفصول، ويخلق لوحة من الألوان عبر تنوّع النباتات والحيوانات. وفي هذه الغابة المليئة التي سرعان ما هزمت الفوضى، يظهر الإنسان في الختام. وينجم عن هذا الظهور مزيد من الابتهاج، فيفيض الرضى والفرح: “ورأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا” (تك 1، 31).شيء جيد، بل جميل أيضًا أن نرى جمال الخليقة كلها!
سرُّ الخلق وجماله يولِّدان في قلب الإنسان أوَّلَ دافع يبعث على الصلاة (را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2566). هذا ما يقوله المزمور الثامنالذي سمعناه في البداية: “عِندَما أرى سَمَواتِكَ صُنعَ أَصابِعِكَ والقَمَرَ والكَواكِبَ الَّتي ثبتَّها، ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟” (الآيات 4- 5). يتأمل المصلي في سرّ الوجود من حوله، ويرى السماء المرصعة بالنجوم من فوقه – والتي يُظهرها لنا اليوم علم الفلك بكلّ عظمتها – ويتساءل أي مخطط حب أوجد هذا العمل القدير! … وفي هذه الرحابة التي لا حد لها، ما هو الإنسان؟ “لا شيء تقريبًا” يقول مزمور آخر (را. 89، 48): هو كائن يولد ثم يموت، وهو مخلوق ضعيف للغاية. ومع ذلك، ففي الكون كله، الإنسان هو الخليقة الوحيدة الذي يدرك هذا الجمال الكثير. هو كائن صغير يولد ثم يموت، اليوم هو موجود وغدًا لا، هو الوحيد الذي يدرك هذا الجمال. نحن على دراية بهذا الجمال!
ترتبط صلاة الإنسان ارتباطًا وثيقًا بالدهشة. إنّ حجم الإنسان ضئيل جدًا عند مقارنته بحجم الكون. أعظم إنجازاته تبدو شيئًا قليلًا جدًا… لكن الإنسان ليس عدمًا. في الصلاة، يسيطر عليه بقوة شعور بالرحمة. لا شيء يوجد صدفة: فسِرُّ الكونِ يكمُنُ في نظرةٍ، ملؤها الرحمة، يلقاها أحدهم في أعيننا. يؤكد المزمور على أننا خلقنا أقل بقليل من الله، وكُللنا بالمجد والكرامة (را. 8، 6). العلاقة مع الله هي عظمة الإنسان: إنها تتويجه. بحسب طبيعتنا نقارب العدم، نحن صغارٌ لكن، من حيثُ دعوتنا، فنحن أبناء الملك العظيم!
كثيرون منا مروا بالخبرة التالية: عندما توشك ظروف الحياة، بكل مراراتها، أن تخنق فينا نعمة الصلاة، يكفي التأمل في السماء المرصعة بالنجوم، أو في غروب الشمس، أو في زهرة… لإيقاد شرارة الشكر فينا. ربما كانت هذه الخبرة هي الأساس في كتابة الصفحة الأولى من الكتاب المقدس.
عندما كُتِبَت رواية الخلق العظيمة في الكتاب المقدس، لم يكن شعب إسرائيل يَمُرُّ بأيام سعيدة. كانت قوة معادية قد احتلت الأرض. وذهب العديد منهم إلى الجلاء، فأصبحوا عبيدًا في بلاد ما بين النهرين. لم يعد هناك وطن، ولا هيكل، ولا حياة اجتماعية ودينية، ولا شيء.
ومع ذلك، انطلاقًا من رواية الخلق العظيمة، بدأ أحدهم يرى أسبابًا للشكر، وأخذ يسبّح الله على نعمة الوجود. الصلاة هي القوة الأولى التي تسند الرجاء. أنت تصلي والرجاء ينمو ويسير قدمًا. لا بل أقول إن الصلاة تفتح الباب للرجاء. الرجاء موجود، ولكن بصلاتي أنا أفتح له الباب. لأنّ الأشخاص المصليين يحافظون على الحقائق الأساسية؛ وهم الذين يكررون، أولاً وقبل كل شيء لأنفسهم ثم لجميع الآخرين، أنّ هذه الحياة، على الرغم من جميع شدائدها وتجاربها، على الرغم من أيامها الصعبة، إنما هي مليئة بنعمة تحملنا على الإعجاب والاندهاش. لذلك يجب دائمًا الدفاع عنها وحمايتها.
يدرك الرجال والنساء الذين يُصّلون أنّ الرجاء أقوى من اليأس. ويؤمنون أنّ الحب أقوى من الموت، وأنه سينتصر بالتأكيد يومًا ما، ولو في أوقات وطرق نحن لا نعرفها. الرجال والنساء الذين يصَلُّون يحملون في وجوههم انعكاسًا لومضاتِ النور: لأنه حتى في أحلك الأيام، لا تتوقف الشمس عن إنارتهم.الصلاة تنيرك: تنير نفسك وقلبك ووجهك، حتى في أحلك الأوقات، وفي أوقات الألم الكبير.
كلّنا حاملو الفرح. هل فكرت بهذا الأمر؟ بأنك حامل الفرح؟ أم أنك تفضل أن تحمل الأخبار السيئةالتي تُحزن؟ جميعنا قادرون على حمل الفرح. وهذه الحياة هي الهبة التي قدمها الله لنا. وهي قصيرة جدًا فلا يجوز أن نبددها في الحزن والمرارة. لنُسَبِّحْ الله، ونحن سعداء، بكل بساطة، لأننا موجودون. لننظر إلى الكون، ولننظر إلى جماله ولننظر أيضًا إلى صلباننا ولنقل: “إنما، أنت موجود، وخلقتنا هكذا من أجلك”. من الضروري أن نشعر بقلق القلب الذي يحملنا إلى شكر الله وحمده. نحن أبناء الملك العظيم والخالق، القادرين على قراءة ختمه في كل الخليقة التي نحن اليوم لا نحرسها، مع أنّ في هذه الخليقة يوجد ختم الله الذي صنعه بدافع من المحبة. ليجعلنا الربّ نفهم هذا بشكل أكثر عمقًا دائمًا وليساعدنا أن نقول “شكرًا”: لأن كلمة شكرًا هي صلاة جميلة.
* * * * * *
قراءة من سفر المزامير (8، 4-5. 10).
“عِندَما أرى سَمَواتِكَ صُنعَ أَصابِعِكَ والقَمَرَ والكَواكِبَ الَّتي ثبتَّها، ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟ […]أَيُّها الرَّبُّ سَيِّدُنا ما أَعظَمَ اْسمَكَ في الأَرضِ كُلِّها!”.
كلامُ الرّب
* * * * * * *
Speaker:
تأمل قداسةُ البابا اليَومَ في سر الخلق في إطارِ تعليمِهِ في موضوع الصلاة. قال قداسته إنّ المصلي يتأمل في سرّ الخلق من حوله ويتساءل أي تدبير حب أوجد هذا الكون العجيب! وما هو الإنسان؟ هو كائن يولد ثم يموت، وهو مخلوق ضعيف للغاية. ومع ذلك، ففي الكون كله، الإنسان هو الخليقة الوحيدة الذي يدرك سر الخلق وجماله. وبالرغم من صغر الإنسان عند مقارنته بحجم الكون، يؤكد سفر المزامير على أن الله خلقنا أقل بقليل منه تعالى، وكللنا بالمجد والكرامة. عظمتنا هي علاقتنا مع الله، لأننا بحسب طبيعتنا نحن تقريبًا لا شيء، لكن من حيث دعوتنا فنحن عظماء، لأننا مدعوون إلى أن نكون أبناء الملك العظيم. وأنهى قداسةُ البابا تعليمَه قائلاً: الصلاة هي القوة الأولى التي تسند الرجاء. والإنسان المصلي هو من يدرك أنّ هذه الحياة، على الرغم من جميع ويلاتها وتجاربها وأيامها الصعبة، إنما هي مليئة بالنعم. ويكفي التأمل في جمالها وفي سر الخلق لنرفع قلوبنا إلى الله، ولنشكره ونسبحه.
* * * * * *
Speaker:
أحيي جميع المؤمنين الناطقين باللغة العربية، المتابعين لهذه المقابلة عَبر وسائل التواصل الاجتماعي. الصلاة هي حوار الإنسان مع الله. فيها نحمده ونشكره على حبه لنا، وفيها نوكل إليه همومنا ومشاكلنا. نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: “اُنْظُرُوا إِلَى الأَجْيَالِ الْقَدِيمَةِ وَتَأَمَّلُوا. هَلْ تَوَكَّلَ أَحَدٌ عَلَى الرَّبِّ فَخَزِيَ؟” (يشوع بن سيراخ 2، 10). ليبارككم الرب جميعًا ويحرسكم دائمًا من كل شر!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2020
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana