ليست مدينة القدس القديمة غريبة على الصمت المقدّس والتدقيق العلمي. لكن الآن، تحت الحجارة القديمة لكنيسة القيامة – أي الموقع الذي يُكَرَّم منذ قرون كمكان صلب يسوع المسيح ودفنه – يكشف علماء الآثار عن أكثر من مجرّد غبار: إنّها قصص مدفونة في الصخور والجذور، قصص قد تقدّم تأكيداً قاطعاً عن التقاليد البيبليّة. فعَبر عمليّة حفر دقيقة، استأنف فريق بقيادة علماء آثار من جامعة سابينزا Sapienza في روما عمله. والمهمّة؟ تتبّع، طبقة تلو الأخرى، الأصداء الملموسة للأحداث المذكورة في روايات الأناجيل، بحسب ما كتبت إليزابيت أوينز من القسم الإنكليزي في زينيت.
في التفاصيل، انطلق المشروع سنة 2022 بعد اجتياز مرحلة الحصول على التصاريح والمفاوضات بين الأديان، وقد أسفر بالفعل عن اكتشافات كبيرة، مِن أبرزها الأدلّة النباتيّة – أجزاء من نبات مزروع يعود تاريخه بالضبط إلى ربيع عام 33 ميلاديّاً، وهو الوقت التقليدي لموت يسوع. هذا الاكتشاف في المنطقة الواقعة بين ما يعتبره التقليد المسيحي الجلجثة والقبر القريب، يتماشى بشكل لافت للنظر مع تفاصيل إنجيل يوحنا: “في المكان الذي صلب فيه، كانت هناك حديقة …” (يو 19: 41)
من ناحيتها، قالت الدكتورة فرانشيسكا رومانا ستاسولا (عالمة الآثار الرئيسيّة في الموقع): “نحن لا نقرأ الكتاب المقدّس فقط. نحن نسير فيه. إنّ اكتشاف آثار نبات لأرض مزروعة بين موقع الصلب والقبر ليس مجرّد صدفة. إنّه علم الآثار الذي يتحدّث لغة الإيمان”.
لكنّ الحفريات أكّدت على أكثر من التفاصيل النباتية: تحت قرون من البناء، اكتشف الباحثون مقابر رخاميّة داخل مجمّع الكنيسة. وعلى الرغم من أنّ المزيد من التحليلات ما زالت معلّقة، إلّا أنّ الرؤى الأوليّة تشير إلى وجود صلة محتملة بيوسف الرامي، الشخصيّة الغامضة في روايات الأناجيل، الذي قيل عنه إنّه تبرّع بقبره الخاص لدفن يسوع. وعن هذا، أوضحت ستاسولا قائلة: “هذه المقابر ليست آثاراً عشوائيّة. يبدو أنها وُضعت عمداً، بما يتوافق مع الإطار الزمني والسياق الثقافي للدفن الموصوف في العهد الجديد. نحن نواصل الدراسة لفهم ما ننظر إليه بدقة – ولكنّ التضمين واضح”.
علاوة على ذلك، الكثير من الاهتمام انتقل إلى المواد بحدّ ذاتها: الرخام، مادة الملاط (المُستَعمَلة في البناء)، والتركيب الجيولوجي لغرف الدفن. يخضع كلّ عنصر لاختبارات دقيقة، على أمل أن تتمكّن البصمات الكيميائية والنظائرية من تتبّع أصوله وتأكيد صحّته. هذا المشروع، على الرغم من أنّه لا يزال في بداياته، يتحدّى بالفعل أولئك الذين رفضوا ادّعاءات الكنيسة التاريخيّة باعتبارها مجرد أسطورة.
“لطالما كان هناك جدل بين الإيمان والدليل. ولكن هنا، نجد أنّ الإيمان ترك دليلاً”. والجدير بالذّكر أنّ كنيسة القيامة لم تكن يوماً مجرّد نصب تذكاري. إنّها شاهد حيّ على قرون من الصلاة والحجّ… والانقسام. وأعمال التنقيب الحاليّة التي تشكّل تعاوناً نادراً بين علماء الآثار والطوائف المسيحيّة الرئيسيّة الثلاث المُشرِفة على الموقع – الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة والكنيسة الرسوليّة الأرمنيّة والكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة – تمثّل لحظة تعاون مفعمة بالأمل في مكان غالباً ما اتّسم بالتوتر. وتُضيف ستاسولا: “إنّ الكنز الحقيقي الذي نكتشفه ليس فقط في الرخام أو الملاط. إنّه يكمن في إنسانيّة الإيمان. نحن نلمس طبقات التفاني التي بنت هذه الكنيسة وحافظت عليها خلال الحروب والزلازل وقرون من العبادة. إنّها قصة أشخاص عبّروا عن إيمانهم ليس فقط بالكلمات، بل بالحجر”.
من المتوقّع أن تثير النتائج اهتماماً متجدّداً بتاريخيّة روايات الأناجيل، وخاصّة بين العلماء والمؤمنين الذين لطالما كانوا مفتونين بمسألة “أين ينتهي التاريخ وتبدأ القصّة المقدّسة”. وفيما اشتبه الكثيرون في العالم الأكاديمي لفترة طويلة مِن الزّمن في أنّ كنيسة القيامة كانت الموقع الحقيقي لموت المسيح وقيامته، إلّا أنّ الأدلّة الملموسة غالباً ما كانت بعيدة المنال – حتّى الآن.
مع استمرار أعمال التنقيب في القسم الشمالي للكنيسة، لا يزال الفريق حذراً ولكن متفائلاً، مع قول أحد أعضائه: “نكشف التاريخ ببطء واحترام. لكن كلّ حجر، وكلّ عيّنة، وكلّ قطعة تُخبرنا بشيء جديد”.
