إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
نحتفل هذا العام بيوبيل الرّحمة، واليوبيل يعني أن نتجدّد ونبدأ، من جديد مصالحتنا مع الله والآخرين. هذه السنة المقدّسة سوف تساعدنا خلال الصوم الأربعيني على التخلّص من الأعباء والمشاكل والصعوبات القديمة، التي تعرقل تقدّمنا في التوبة والحرية والفرح.
إن سنة الرّحمة ليست سنة للمحاسبة وتصفية الحسابات، بل هى سنة رحمةٍ وعطفٍ وتحرير. إنها فرصةٌ لإعادة قراءة حياتنا الخاصة، حيث الديون القديمة، والغضب والحقد والحسب والكراهية والنميمة وغيرها ليتم حذفها والتخلّص منها. إنها عمليةٌ روحيةٌ كما يعلّمنا القدّيس بولس في رسالته الثانية إلى أهل قورِنتس: “فإذا كان أحدٌ في المسيح، فإنه خلقٌ جديد. قد زالت الأشياء القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة. وهذا كله من الله الذي صالحنا بالمسيح وأعطانا خدمة المصالحة، ذلك بأن الله كان في المسيح مصالحاً للعالم وغير محاسبٍ لهم على زلاّتهم، ومستودِعاً إيّانا كلمة المصالحة. فنحن سفراءُ في سبيلِ المسيح، وكأن الله يعظ بألسنتنا. فنسألكم باسم المسيح أن تدعوا الله يُصالحُكُم” (2 قورِنتس 17:5-20).
عرش النِعمة: رحمة ومصالحة
خلال سنة الرّحمة، وخاصةً خلال زمن الصوم يجب علينا هدم الجدران التي تُعيقُنا عن التحرُّك والاتجاه تجاه الله والآخرين.
الأبواب المقدّسة التي فتحناها في كنائسنا وأبرشياتنا، ترمز إلى كل الأبواب التي يجب علينا فتحها خلال هذه السنة اليوبيليّة الاستثنائية للرّحمة: أولاً أبواب قلوبنا، وأيضاً بيوتنا ومؤسساتنا.
صُنتعت الأبواب لتسمح لنا ولأصحابنا الدخول إلى بيوتنا لزيارة بعضنا. أما أبواب الرّحمة فترمز للدخول إلى: “عرش النِعمة” كما نقرأ في الرسالةِ إلى العبرانيين: “فالنتقدّم بثقةٍ إلى عرش النِعمة لننال رحمةً ونلقى حُظوةً ليأتينا الغوثُ في حينه” (عبرانيين 16:4).
إن المصالحة تتطلّب فعل توبة حقيقي نابع من قلوبنا. والتوبة تعني أن نغيّر مجرى حياتنا واتجاه طريقنا، عندما نسير في الطريق الخاطئ، وأن نُظهر هذا التغيير من خلال أعمالٍ تعويضية عميقة لارتدادٍ جديدٍ نحو الله. تتطلّب هذه العملية تضحيات شخصية مرتبطة بالصلاة والتواضع وأعمال تجديد وإصلاح جديّة.
وبذلك فقط فإن رحمة الله السخية يمكنها أن تتجلّى فينا بكامل قوّتها وجمالها.
إخوتي الأحباء، تعالوا نتأمّل في نصّ أساسي من الكتاب المقدّس، لكي يساعدنا على فهم أفضل لسنة الرّحمة والتي نختبر خلالها كلمات المزمور: “الرّحمة والحقُّ تلاقيا، البرُّ والسلام تعانقا” (مزمور 11:85).
السامريّ الصالح (لوقا 25:10-30):
سأل أحد علماء الشريعة الرّب يسوع: “يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟”. كمعلم صالح، يجيب الرّب يسوع بسؤالٍ مضادّ: “ماذا كُتِب في الشريعة؟ كيف تقرأ؟”. بذلك يدعو يسوع عالِم الشريعة ليجد حلاً في الكتاب المقدّس حيث الجواب واضح وبسيط: “أحبب الرّب إلهُك، بكل قلبك وكل نفسك، وكل قوّتك، وكل ذهنِك، واحبب قريبك حبك لنفسك” (لوقا 25:10-27).
عالِم الشريعة أراد أن يزكّي نفسه ويحصل على إجابة أكثر دقة، فقال ليسوع: “ومن قريبي؟” (لوقا 29:10) أجابه الرّب يسوع برواية قصة رائعة عن رجلٍ كان “نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بأيدي اللصوص” وتُرِك بين حيٍّ وميت. أولاً، مرّ كاهنٌ أمام الشخص المجروح، ثم لاويٌ عالِم بالدين، ويعرف الكتاب المقدّس عن ظهرِ قلبه، لكن لا أحد منهما يصنع شيئاً للشخصِ المجروح، رغم أنهما مرّوا منه ورأياه. إن أفضل معرفة للكتاب المقدّس، لا تضمنُ التصرف الصحيح في الأوقات الحرجة. من قام بالمبادرة كان سامريٌّ مارّاً، وهو الذي يعتبر بالنسبة لليهود خارجاً عن القانون. لكن هذا الشخص تصرف “بدافعٍ من التحنّن” وعمل كل شيء كي يُنقذ ويساعد الشخص المجروح وشبه الميت.
سأل عالِم الشريعة: “من هو قريبي؟” في نهاية القصة، يقلب يسوع السؤال: “من كان في رأيكَ من هؤلاء الثلاثة، قريب من الذي وقع بأيدي اللصوص؟” هذا ما أظهر الجواب: “الذي عامله بالرّحمة” وهكذا نجد أن السؤال: “من هو قريبي؟” أصبح تحدياً لكي تبقى العيون مفتوحةً ولتتقدّم نحو من هم في أمسّ الحاجة لنا. الجار أو القريب ليس فقط مسألة جغرافية عن القريب المجاور لمنزلنا. بحسب تعليم الرّب يسوع، القريبُ هو كل من يحتاج مساعدتي، ويجب أن أتقدّم نحو الآخر كي يصبح هذا الشخص الغريب بالنسبة لي، قريباً مني، وأن أحرّك قلبي لمساعدته وخدمته بدافع الرّحمة، وأن أتصرف معه بمحبّة.
إذهب فاعمل أيضاً مثل ذلك (لوقا 37:10):
في تاريخ حياة القدّيسين الذين ساروا في نهج المسيح، وأصبحوا قريبين من المجروحين كالقديس فرنسيس الأسيزي، الذي تغلّب على اشمئزازه من البرص واقترب منهم وقبّلهم واعتنى بهم. أو الطوباوية الأُم تريزا دي كالكوتا، التي لم تنتظر المرضى يقرعون باب ديرها، بل هي خرجت إلى الشوارع لتبحث عنهم وتخدمهم وبذلك أصبحت قريبة مُحِبّة للأشخاص الذين هم على فراش الألم والموت.
كلنا مدعوّونَ لنفتح أعيُننا وقلوبنا، وأن نصبح قريبين لمن هم بحاجةٍ لنا. أُذكّركم ما قاله البابا فرنسيس، يوم 13 يوليو / تموز 2013، عندما ذهب إلى لمبيدوسا الجزيرة الإيطالية القريبة من أفريقيا، كي يصبح قريباً من اللاجئين، قال: “اليوم، لا أحد في هذا العالم يشعر أنه مسؤولٌ، لقد فقدنا الإحساس بالمسؤوليةِ تجاه إخوتنا وأخواتنا. لقد وقعنا في نفاق الكاهن واللاويّ، الذين وصفهما يسوع في مثل السامري الصالح: نرى إخوتنا نصف أمواتٍ على قارعة الطريق، ولعلّنا نقول لأنفسنا: “مسكين…!”، ثم نذهب في طريقنا إنها ليست مسؤوليتنا، وبذلك نشعر بالطمأنينة والخفّة. إن ثقافة الرفاهية، التي تجعلنا نفكّر فقط بذواتنا، تجعلنا غير مكترثين لصرخات الناس الآخرين، تجعلنا نعيش في فقاعة صابون، التي، بالرغم من أنها جميلة، إلاّ أنها واهية، إنها وهمٌ فارغٌ وعابرٌ، ينتج عنه عدم إكتراثٍ للآخرين. في الواقع، هذا يقود إلى عولمة اللامبالاة. في عالم العولمة هذا، سقطنا فريسة اللامبالاة العالمية. لقد تعوّدنا على معاناة الآخرين، إذا كانت لا تهمّني، فهي لا تعنيني، هي ليست من شأني!”.
إخوتي وأخواتي في المسيح، يسوع يريدنا أن نكون متأثّرين ومعنيين. يريد منّا أن نجعل احتياجات وآلام الآخرين همّنا الأساسي! هناك العديد من السامريين بيننا: رجالٌ ونساءٌ يعتنون بالمرضى، يزورون السجناء، يساعدونَ اللاجئين في المخيمات والنساء اللواتي تعرضنَ للإساءةِ، أو المستعبدين. لا ينبغي علينا أن نذهب بعيداً، يجب علينا أن نكون قريبين أكثر من بعضنا. قد يكون أولادنا بحاجةٍ للرعاية والحبِّ أولى من غيرهم، وزملائنا في العمل قد يكونون سعداء إذا أصبحنا أقرباء حقيقيين لهم.
لتبقى دائماً كلمة يسوع في أذهانكم، عندما أشار للسامريّ الصالح في نهاية القصة: “إذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك” (لوقا 37:10).
يسوع هو السامريّ الحقيقيّ:
يجدر بنا الآن إلقاءَ نظرةٍ أعمق على مثَل السامريّ الصالح. يخبرنا الرّب يسوع هذه القصة المؤثرة، ليس فقط ليحَسِّنَ سلوكنا الأخلاقيّ. نَعَم، ولكنه يريد أيضاً أن يكشف شيئاً عن ذاته.
رأت الكنيسة الأولى في الرجل “الذي وقع في أيدي اللصوص” البشرية الخاطئة، وفي “السامريّ الصالح” يسوع المسيح، المخلّص، وعليه فإن المثَل هو شرحٌ غنيٌّ لما قيل في رسالة القدّيس يوحنا الأولى: “وما تقومُ عليه المحبّة هو أنه لسنا نحن أحببنا الله، بل هو أحبنا فأرسل ابنه كفّارةً عن خطايانا. أيها الأحباء، إذا كان الله قد أحبّنا هذا الحبّ، فعلينا نحن أن يحبّ بعضنا بعضاً” (1 يوحنا 10:4-11).
يسوع، ابن الله، هو السامريّ الصالح الذي رآنا، اقترب منّا، أشفق علينا، ضمّدَ جراحنا واعتنى بنا. حملنا على كتفيه وذهب بنا إلى فندقٍ واعتنى بأمرنا. هذا يعني أنّنا، عندما نستمع كل سنةٍ، يوم الجمعة العظيمة في القراءة لسفر أشعيا: “لقد حمل هو آلامنا، واحتمل أوجاعنا، فحسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلّلاً. طُعِن بسبب معاصينا وسُحِقَ بسبب آثامنا، نزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجراحه شُفينا… فألقى الرّبُ عليه إثمَ كلنا” (أشعيا 4:53-6).
في “الفندق” يعني في الكنيسة مع أسرارها، يعطينا يسوع المسيح كل ما هو ضروري لشفاء أرواحنا وأجسادنا.
إذا لم نترك في أذهاننا حياة وموت وقيامة يسوع المسيح، لن نفهم معنى مثَل السامريّ الصالح، ولن نتمكّن من العملِ والتصرّف، كما فعل يسوع. تارَكين لذواتنا التصرّف تماماً مثل الكاهن واللاوي: نمرُّ على الجانب الآخر، “مال عنه ومضى”، كي لا نزعج أنفسنا، لأننا خطأة، ومع الأسف، متخصّصون في إغماض أعيننا أمام بؤس الآخرين. نحن بحاجةٍ إلى يسوع، الذي يضع روحه القدوس في قلوبنا ويجعل تصرّفنا، مثل السامريّ الحقيقيّ، فنرى بدافع من الرّحمة، الوضع المأسوي للعديد من الأشخاص، فلا نمرّ على الجانب الآخر، بل ندنو منه، نضمّد جراحه ونصبّ عليها زيتاً وخمراً.
لا يغيّر شيئاً من عملنا إذا كان الجريح أو المريض هو صديق أو عدو، ابن البلد أو أجنبي، مسيحي أو غير مسيحي، لطيف أو مزعج… فيسوع لم يفرّق. يجب علينا فقط أن نفتح أعيُننا. وأن لا نسأل بعد الآن: “من هو قريبي؟” بل يجب علينا أن نقول: من هو الذي سيكون قريباً منّا ويجب علينا أن نعتني به؟
لا رحمة بدون صلاة وغفران:
في هذه السنة كلٍ منّا بحاجةٍ إلى الرّحمة والمصالحة والغفران، لأننا نعيش في شركةٍ مع الكنيسة، حيث لدينا مسؤولية تجاه بعضنا البعض. نحن لا نسأل فقط الغفران لأنفسنا، بل نطلبها بالصلاة من أجل الآخرين، كي نستطيع، جميعنا، المضي قدماً إلى هدفنا السماوي بشفاعة العذراء مريم أم الرّحمة والرأفة، التي تصلّي وتتشفّع لنا لدى ابنها يسوع كي نعيش سنة الرّحمة بروح مستعدّة للمصالحة، وقلب مليءٍ بالرأفة والمحبّة والحنان، لأولئك الذين يتألمون وبحاجة لمساعدتنا.
أيها الإخوة والأبناء الأعزاء:
ومن أجل أن يكون صومنا مثمراً اخترنا لكم قراءات روحيّة من العهد الجديد، لترافقكم في التفكير والتأمل والمصالحة مع الله والذّات والقريب.
نتمنّى لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة روحيَّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً بشفاعة العذراء مريم أُمنا، وبصلوات القدِّيس كريكور (غريغوريوس) المنوَّر والطوباوي أغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.
CC0 - Rovin - Pixabay
رســالة راعــوية للمطران كريكور أوغسطينوس كوسا بمناسبة الصوم الأربعيني 2016
طوبى للرُحماء فإنهم يُرحمون (متى 7:5)