* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
في كل سنة يحضنا قداس المسحة على الولوج مجددًا في كلمة”النعم” لدعوة الله التي قلناها في يوم سيامتنا الكهنوتية. “هاأنذا – Adsum ” لقد قلنا مثل أشعيا عندما سمع صوت الله السائل: “من أرسل ومن ينطلق لأجلنا؟”، “هاأنذا، أرسلني!”، أجاب أشعيا (أش 6، 8). والرب عينه، بواسطة يدي الأسقف، وضع الأيدي فتكرسنا لرسالته. ومن ثم، سرنا في سبل كثيرة في مجال دعوته.
هل يمكننا دومًا القول مثل القديس بولس الذي بعد الكثير من السنوات في خدمة الإنجيل، والتي غالبًا ما تميزت بالتعب وبمختلف أنواع الآلام: “إن غيرتنا لم تنقص في تلك الخدمة التي أوكلت إلينا لأجل رحمة الله” (راجع 2 كور 4، 1)؟ “إن غيرتنا لم تنقص”. فلنصل في هذا اليوم لكي تتقد هذه الغيرة دومًا، ولكي تتغذى دومًا من شعلة الإنجيل الحية.
في الوقت عينه، الخميس المقدس هو بالنسبة لنا مناسبة لكي نتساءل من جديد: لأي شيء قلنا “نَعَمنا”؟ ما هو جوهر أن “نكون كهنة يسوع المسيح”؟
إن النافور الثاني من كتاب القداس، الذي تمت صياغته على الأرجح قبيل ختام القرن الثاني في روما، يصف جوهر الخدمة الكهنوتية بالكلمات التي كان كتاب تثنية الاشتراع (18، 5. 7) يستعملها لوصف جوهر كهنوت العهد القديم: ” astare coram te et tibi ministrare ” “الوقوف بحضرة الله وخدمته”. في كتاب تثنية الاشتراع يتم قراءة هذا الموضوع في إطار الأحكام السالفة، التي بحسبها لا يتلقى الكهنة إرثًا في الأراضي المقدسة – كانوا يعيشون من الله ولله. لم يزاولوا الأعمال الاعتيادية الضرورية لأجل قيام الحياة اليومية.
كان عملهم “الوقوف أمام الله” – النظر إليه، الحضور أمامه. وهكذا، كانت الكلمة تشير إلى حياة في حضرة الله وأيضًا خدمة تمثل الآخرين. فكما يقوم الآخرون بالاعتناء بالأرض، كذلك الكهنة كانوا يعنون بأن يبقى العالم منفتحًا على الله، وأن يعيش ونظره مرفوع إليه تعالى.
تواجد هذه الكلمات في نافور القداس فورًا بعد تقديس التقادم، بعد دخول الرب في الجماعة المصلية، يعني بالنسبة لنا الوقوف أمام الله الحاضر، ويعني أن الافخارستيا هي محور الحياة الكهنوتية.
ولكن المعنى يذهب أعمق أيضًا. في نشيد ليتورجية الساعات يقوم “فرض القراءات” – وهو الفرض الذي كان يصليه الرهبان في الماضي خلال ساعة السهر الليلية أمام الله والبشر – بتقديم إحدى واجبات الصوم بالأمر التالي: ” arctius perstemus in custodia ” – فلنكن ساهرين بشكل مكثف.
في التقليد الرهباني السرياني، كان يتم وصف الرهبان بـ “الواقفين”؛ الوقوف كان تعبيرًا عن السهر. وما كان يعتبر واجب الرهبان يمكننا بحق أن نراه أيضًا كتعبير عن الرسالة الكهنوتية وكتفسير مناسب لكلمة سفر التثنية: على الكاهن أن يكون ساهرًا. عليه أن يقف حارسًا في وجه قوى الشر العاتية. عليه أن يبقي العالم يقظًا لأجل الله. عليه أن يقف على قدميه: مستقيمًا وثابتًا في وجه تيارات الأزمنة. مستقيمًا في الحق. مستقيمًا في الالتزام من أجل الخير. على الوقوف أمام الرب أن يكون دومًا، وفي أعمق الأعماق، حملاً للبشر أمام الرب، الذي، بدوره يحملنا جميعًا أمام الآب. ويجب أن يكون أيضًا حملاً له، للمسيح، لكلمته، لحقيقته، لحبه.
على الكاهن أن يكون مستقيمًا، مقدامًا ومستعدًا أن يتحمل الإهانات لأجل الرب ، كما يقول كتاب أعمال الرسل: كانوا “فرحين لأنهم تعرضوا للإهانة والضرب حبًا باسم يسوع” (5، 41).
ننتقل الآن إلى الكلمة الثانية، التي يأخذها النافور من نص العهد القديم – “الوقوف أمامك وخدمتك”. على الكاهن أن يكون شخصًا مستقيمًا، ساهرًا، شخصًا يقف مستقيمًا. ويضاف إلى كل هذا من ثمّ الخدمة. في نص العهد القديم تأخذ هذه الكلمة معنىً طقسيًا بشكل خاص: كان من واجب الكهنة القيام بكل أعمال العبادة التي تفرضها الشريعة. ولكن هذا العمل بموجب الطقس كان يعتبر كخدمة، كواجب خدمة، وبهذا الشكل يمكننا تفسير الروح الذي كان يجب أن يرافق القيام بهذه الخدمات.
استعمال كلمة “خدمة” في النافور يعني تبني هذا المعنى الليتورجي للكلمة مع مطابقته على جدة العبادة المسيحية. ما يقوم به الكاهن في تلك اللحظة، في الاحتفال بالافخارستيا، هو خدمة، يقوم بخدمة لله وللبشر. العبادة التي أداها المسيح لله كانت أن يهب نفسه حتى المنتهى للبشر. على الكاهن أن يضم نفسه إلى هذه العبادة، إلى هذه الخدمة.
وبهذا الشكل تحتل كلمة “خدمة” أبعادًا عدة. بالطبع، يشكل جزءًا من هذه الخدمة الاحتفال الجيد بالليتورجية والأسرار بشكل عام عبر الاشتراك الداخلي. علينا أن نتعلم أن نفهم دومًا وأكثر الليتورجية المقدسة بكل جوهرها، وأن ننمي ألفة حية معها، حتى تصبح النفس المحرِّكة لحياتنا اليومية.
وبهذا الشكل نحتفل بطريقة صحيحة، ويظهر من تلقاء نفسه “ars celebrandi ” “فن الاحتفال”. لا يجب أن يتضمن هذا الفن شيئًا اصطناعيًا. عليه أن يصير شيئًا واحدًا مع فن العيش الصحيح. إذا كانت الليتورجية واجبًا محوريًا بالنسبة للكاهن، فهذا يعني أيضًا أن على الصلاة أن تصير واقعًا أولويًا يجب أن نتعلمه دومًا من جديد ودومًا بشكل أعمق في مدرسة المسيح والقديسين في كل الأزمنة. وبما أن الليتورجية المسيحية، بطبيعتها، هي دومًا تبشير، علينا ان نكون أشخاصًا يعيشون الألفة مع كلمة الله، يحبونها ويعيشونها: فقط عندها نستطيع أن نتعلمها ونشرحها بشكل مناسب. “خدمة الرب” – الخدمة الكهنوتية تعني أيضًا أن نتعلم أن نعرف الرب في كلمته وأن نجعله معروفًا لجميع الذين يوكلهم إلينا.
وأخيرًا هناك بعدان
آخران للخدمة. ما من أحد أقرب إلى الرب من الخادم الذي يحق له الولوج في البعد الأكثر خصوصية من حياته. بهذا المعنى تصبح “الخدمة” مرادفًا للقرب، وتتطلب ألفة. هذه الألفة تحمل معها خطرًا: أن يضحي المقدس الذي نلقاه باستمرار أمرًا اعتياديًا بالنسبة لنا. وأن تخمد بهذا الشكل مخافة الله. تحت تأثير كل العادات لا نعود نفقه الأمر العظيم، والجديد، والمفاجئ، أي أن يكون هو بالذات حاضرًا، ويكلمنا ويهب نفسه لنا.
لمواجهة هذا الاعتياد على الواقع الخارق الطبيعة، علينا أن نحارب دون هوادة ضد عدم اكتراث القلب، وعلينا أن نعترف دومًا بعدم كفايتنا وبالنعمة الكامنة في واقع تسليمه لذاته في أيدينا بهذا الشكل.
الخدمة تعني القرب ولكنها تعني فوق كل شيء الطاعة. الخادم هو قيد الكلمة: “لا تكن مشيئتي بل مشيئتك!” (لو 22، 42). بهذه الكلمة، نال يسوع الغلبة في بستان الزيتون في المعركة الحاسمة ضد الشر، ضد تمرد القلب الساقط. فخطيئة آدم تتألف من أنه أراد أن يحقق إرادته لا إرادة الله. تجربة البشرية هي دومًا تجربة الاستقلالية المطلقة، أن تتبع إرادتها معتقدة أننا بهذا الشكل فقط سنكون أحرارًا؛ وأنه فقط بفضل حرية مماثلة دون قيود يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا بالكامل، فيصير إلهيًا. ولكن بهذا الشكل بالضبط، نحن نضع أنفسنا ضد الحقيقة. لأن الحقيقة هي أنه علينا أن نتقاسم الحرية مع الآخرين ويمكننا أن نكون أحرارًا فقط بالشركة معهم. هذه الحرية المشتركة يمكنها أن تكون حقيقية فقط إذا ما دخلنا في ما يشكل مقياس الحرية بالذات، أي إذا ما دخلنا في إرادة الله.
هذه الطاعة الأساسية التي تشكل جزءًا من الكيان البشري، تصبح متجسدة بشكل أكبر في الكاهن: نحن لا تبشر بأنفسنا، بل به تعالى وبكلمته التي لم يكن بوسعنا أن نختلقها من ذواتنا. نحن لا نبتكر الكنيسة كما نريدها أن تكون، بل نعلن كلمة المسيح بشكل صحيح فقط عبر الشركة مع جسده. طاعتنا هي أن نؤمن مع الكنيسة، أن نفكر وأن نتكلم مع الكنيسة، أن نخدم معها. يندرج في هذا الصدد أيضًا ما تنبأ به يسوع بشأن بطرس: “سيحملك آخر حيث لا تريد”. أن يتم حملنا حيث لا نريد هو بُعد جوهري من خدمتنا، وهو بالضبط ما يجعلنا أحرارًا. عبر هذه الهداية التي قد تكون مغايرة لأفكارنا ومشاريعنا، نختبر أمرًا جديدًا هو غنى محبة الله.
“الوقوف أمامه وخدمته”: لقد أعطى يسوع المسيح، الحبر الأعظم الحق للعالم، هذه الكلمات عمقًا لم يكن ممكنًا تخيله قبلًا. فهو، الابن والرب، أراد أن يصبح ذلك عبد الله الذي تحدثت عنه رؤية كتاب النبي أشعيا. لقد أراد أن يكون خادم الجميع. لقد صوّر كامل حبريته العظمى في غسل الأرجل. عبر بادرة الحب حتى النهاية غسل أرجلنا القذرة، بتواضع خدمته طهرنا من مرض كبريائنا. وبهذا الشكل مكننا أن نصير جلساء وليمة الله. لقد انحدر، والارتقاء الحقيقي للإنسان يتحقق الآن في نزولنا معه ونحوه. ارتفاعه هو الصليب. وهو الانحدار الأعمق، كحب اندفع حتى المنتهى هو في الوقت عينه قمة الارتقاء، “ارتفاع” الإنسان الحق.
“الوقوف بحضرته وخدمته” يعني الآن الدخول في دعوته كخادم الله. الافخارستيا، كحضور انحدار وصعود المسيح توجه بهذا الشكل ودومًا، أبعد من ذاتها، إلى مختلف أشكال خدمة محبة القريب. فلنطلب إلى الرب في هذا النهار نعمة أن نتمكن من قول “نعم” لدعوته: “هاأنذا، أرسلني يا رب” (أش 6، 8). آمين.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.