المسيح قام حقا قام. كل عام وأنتم بخير.
1. نعم، هنا، حيث اجتمعنا في هذا الصباح لنصلي، هذا القبر الذي نكرّمه اليوم، كان وسيبقى شاهدا لكل الأحداث التي نؤمن بها. كان وسيبقى شاهدا لإيماننا ولمحبّة الله للبشرية كلّها. فمع الكنيسة الجامعة نجدّد اليوم إيماننا ونقول إنّ المسيح، هنا، مات على الصليب، ثم قام، حقًّا قام. نصلّي في هذا الصباح من أجل جميع المسيحيين في جميع أبرشياتنا في كنيسة القدس، وفي العالم، ومن أجل اليهود والمسلمين والمؤمنين في كل الديانات، ومن أجل شعوب المنطقة كلِّها ليشمل الله الجميع برحمته ويمنح الجميع الحياة الوافرة والمطمئنّة. نصلّي حتى يملأ رجاءُ القيامة قلوبنا جميعا فيجدّدها ويملأها بسر الله ومحبّته.
هنا بذل المسيح حياته في سبيل البشرية. وكان قد تنبأ لرسله بآلامه وموته وقيامته، حتى يُعِدَّهم لفهم سرّ الله وقبوله، ولا يبقوا محصورين ضمن رؤى أو طموحات بشرية، لأنّهم كانوا يظنّون أنه أتى ليعيد الملك لإسرائيل. يقول الإنجيل المقدس: “كانوا يوما مجتمعين في الجليل، فقال لهم يسوع: إنّ ابن الإنسان سيُسلَم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم”. ويضيف الإنجيل: إنهم “حزنوا حزنا شديدا”( متى 17: 22)، ذلك لأنهم كانوا بعد غير قادرين أن يفهموا، وكانوا سجناء رؤاهم الأرضية فقط.
قال يسوع أيضا: “إني أبذل نفسي لأنالها ثانية. ما من أحد ينتزعها مني، بل أنا أبذلها برضاي. فلي أن أبذلها ولي أن أنالها ثانية” (يوحنا 10: 17 – 18)
نصلّي، أيها الإخوة، في هذا الصباح، وصلاتنا شاملة جامعة لجميع سكّان أرضنا المقدسة هذه، مثلُ صلاة يسوع التي تشمل البشرية كلَّها، حتى يدرك الجميع في أرض الموت هذه التي نعيش فيها أن الإرسال إلى الموت والقتل ليس الطريق السليم لتوفير الحياة أو الحقوق المشروعة أو الأمن. يسوع وحده بذل حياته، وهو كلمة الله الأزلي. وهو وحده يستطيع أن يقول: “إني أبذل نفسي لأنالها ثانية. ما من أحد ينتزعها مني، بل أنا أبذلها برضاي. فلي أن أبذلها ولي أن أنالها ثانية”. ويزداد فهمنا لهذه الآية عندما نتأمّل في الآية التالية من الإنجيل المقدس: “قبل عيد الفصح، كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحبّ خاصّته الذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقصى حدوده” (يوحنا 13: 1). فهي المحبّة وحدها التي تقدر أن تحوّل الموت إلى حياة.
أيها الإخوة والأخوات، هذا هو معنى الفصح لنا: هو العبور من الموت إلى الحياة والقيامة. هو الموت الذي يصبح بقوّة الحبّ والمعفرة فداء ونعمة تلد إنسانًا مجدّدًا. العبور من الموت إلى الحياة هذا هو معنى الفصح، وهو مصدر رجائنا المسيحي: فكل صعوبة أمامنا، وكل موت يواجهنا نحن أيضا سوف يؤدّي بنا إلى حياة جديدة. فلن يبقى الموت موتًا ولا الصعاب تبقى مصدرًا لآلام عقيمة. ولا يحقّ لأحد أن يجعل من الألم، مهما عَظُمَ ومهما كان صعبًا فهمه، سِجنًا لنفسه أو للأجيال من بعده. آلام المسيح كانت كبيرة وهائلة، وكان وما زال فهمُها صعبا. عُدَّ بين المجرمين، كما تنبأ الأنباء، وقاسى آلام الصليب. ولكنّه أحبّ وغفر: “أحبّ خاصّته حتى أقصى الحدود”. ومن أعلى الصليب في وسط آلامه قال:”أبتِ، اغفر لهم” (لوقا 23: 33). ولذلك كان موته فداء وقيامة.
أوشك تلاميذ يسوع أنفسهم أن يجعلوا من الألم سجنا لهم. قال تلميذا عمواس: “كنّا نأمل أن يعيد الملك لإسرائيل. أما الآن فقد أسلمه رؤساؤنا إلى الرومان وقتلوه”. وسار يسوع معهما من جديد بعد قيامته، وفسّر لهما الكتب، وبيّن لهما معنى كلّ ما حدث، فحرّرهما من الإحباط ومن الشعور بالفشل الذي ظنَّا أنهما كانا ضحيّته إذ تبعاه. علّمهما من جديد فتعلّما وفهما، وتحوّل يأسهما إلى مسيرة جديدة نحو القدس، مكان الصليب والآلام إذ أصبحت مكان القيامة أيضا. عادا إلى القدس يحملان هما أيضا بشارة القيامة: قد رأينا الرب وأعاد إلينا الحياة.
2. يقول القديس بولس في القراءة الثانية لهذا النهار، من الرسالة إلى أهل قولوسي: “أمّا وقد قمتم مع المسيح فانظروا إلى الأمور التي في العلى، حيث المسيح قد جلس عن يمين الآب” (قولوسي 3: 1). انظروا إلى العلى لتقدروا أن تروا بصورة أفضل ماذا على الأرض، لتقدروا أن تدركوا مَن نحن – أنّنا في العالم ولكنّنا لسنا من العالم – نحن في العالم، ولكنّ انتصار المسيح على الموت جعلنا متّحدين بالله خالقنا وفادينا، ومن ثَمَّ قادرين أن نحوّل الموت إلى حياة. انظروا إلى الأمور التي في العلى، حتى نتمكّن من أن نرى بصورة أفضل الأمور التي في هذه الدنيا، ونتمكَّن من اتخاذ المواقف منها بصورة أفضل. وأمور هذه الدنيا صعاب عديدة، سواء في داخل ذواتنا، كلِّ واحد منا، أم في تاريخ الشعوب الصعب، ولا سيّما شعبَيْ هذه الأرض المقدسة.
أرض مقدّسة، أصبحت منذ عشرات السنين بيئة موت طبيعية لازمتنا ودخلت في رتابة حياتنا. أصبحت صليبا دائما: دماء وكراهية وأسرى وقتلى وبيوت مهدَّمة واحتلال وانعدام أمن مستمرّ. هو مأزق للناس، لقادتنا السياسيين، تعوّدوا وتعوّدنا معهم على الموت، فهو لهم وضع طبيعي يظنّون أنّه من واجبهم أن يديروه فقط من غير أن يصلوا يومًا إلى الحياة. أحداث الأسابيع الماضية، اجتياح غزّة، والعملية في المدرسة الدينية اليهودية في القدس، والشباب الذي قتلوا في بيت لحم وغيرهم كثيرون، كل هذا تكرار عقيم لأحداث شهدناها تتكرّر منذ عشرات السنين. وما زلنا نقول: لن ينال أحد أمنه بانعدام الأمن لدى غيره. ولذلك لا بدّ
من سلوك طرق جديدة.
الإيمان بيسوع المسيح الذي مات وقام، هو مصدر أمل ورجاء فينا: أنَّ هذه الأرض المخضعة للموت على يد قادة ورأي عام سجين ومقيّد بقيود التنافر والعداء وانعدام الثقة، هو إيمان ورجاء أن أرضنا قادرة على أن ترى هي أيضا حياة جديدة لكلّ أهلها، على أن تتحرّر القلوب وتتطهّر من شرّ الحرب والعداوة وانعدام الثقة التي تأصّلت في النفوس.
انظروا إلى العلى، وتأمّلوا في يسوع الذي مات ثم قام، لنتعلّم كيف نموت نحن أيضا ونقوم في كل يوم وفي كل لحظة، ولكي نعطي الأمل لأرضنا. وأنتم الشعب المختار، إنَّ دعوتكم مثل دعوة يسوع: أن تعطوا الحياة للعالم، ولكن أوّلا لأنفسكم. أنتم القيادات العسكرية، والمخطّطون وصنّاع الحرب والمفكّرون في إسرائيل، يجب أن تعيدوا النظر في رسالتكم وفي رسالة هذه الأرض، وفي الاختيار وفي عهدكم الدائم مع الله، لتجعلوا منه عهدا مع البشرية كلّها وتجعلوا منه مصدر حياة جديدة هنا وفي كلّ مكان.
قال القديس بطرس للجموع بعد العنصرة: نحن شهود للقيامة. ونحن، أيها الإخوة، نقول مثل قوله هنا وفي المكان نفسه: نحن أيضا شهود للقيامة، لنعطي ونُبقِي الأمل في قلوب الجميع، بالرغم من الشرّ الذي يدمّر هذه الأرض وأهلها. لنصلِّ، أيها الأخوة والأخوات، حتى يمنحنا الله بقوة القيامة المجيدة المقدرة على إعادة الحياة لأرضنا ولكلّ من دعانا إلى العيش ومواجهة الصعاب معهم. وإنّنا نجدِّد أملنا مع صاحب المزامير قائلين: “إن الله سينجّي نفس” (مزمور 48: 16) وسينجّي هذه الأرض.
المسيح قام حقا قام. كل عام وأنتم بخير. آمين.
+ البطريرك ميشيل صبّاح