أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!
“الرب قريب: تعالوا نسجد له”.
هذه هي الدعوة التي توجهها إلينا الليتورجية في آخر أيام زمن المجيء لكي نقترب بتأنٍ من مغارة بيت لحم حيث اكتمل الحدث الفائق الطبيعة الذي غير مجرى التاريخ: حدث ولادة المخلص.
سنتوقف مرة أخرى ليلة الميلاد أمام المغارة لنتأمل بذهول “الكلمة الصائر جسدًا”. وستتجدد في قلوبنا مشاعر الفرح والعرفان، كما في كل سنة، على لحن الأناشيد الميلادية، التي تغني بلغات مختلفة الحدث المذهل ذاته. فالمحبة حملت خالق الكون ليأتي ويقيم بين البشر.
في الرسالة إلى أهل فيليبي، يقول القديس بولس أن المسيح “مع أنه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل أفرغ ذاته متخذًا صورة العبد وصار على مثال البشر” (2، 6). ويضيف الرسول بأنه ظهر في هيئة إنسان واضعًا نفسه. في الميلاد، نعيش من جديد تحقيق هذا السر السامي، سر النعمة والرحمة.
ويقول بولس أيضًا: ” لما حل ملء الأزمنة، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، مولودًا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني” (غلا 4، 4- 5). فبالحقيقة، انتظر الشعب المختار المسيح لدهور طويلة، ولكنه كان يتصوره قائدًا جبارًا وظافرًا يحرر خاصته من ظلم الغرباء. أما المخلص فولد في الصمت وفي الفقر المدقع. جاء نورًا ينير كل إنسان – كما يقول القديس يوحنا الإنجيلي – “ولكن أهل بيته لم يقبلوه” (يو 1، 9. 11). ثم يضيف الرسول يوحنا: “أما الذين قبلوه فقد مكنهم أن يصيروا أبناء الله” (يو 1، 12). فالنور الموعود أضاء قلوب الذين ثابروا على السهر اليقظ والفاعل.
تحثنا ليتورجية المجيء نحن أيضًا على السهر واليقظة لكي لا نسمح للخطيئة ولهموم العالم بأن تثقل قلوبنا. فبالسهر والصلاة يمكننا أن نتعرف إلى بهاء ميلاد المسيح وأن نقبله.
يقول القديس مكسيموس التوريني – أسقفٌ من القرنين الرابع والخامس – في أحد عظاته: “يحذرنا الزمن بأن ميلاد المسيح وشيك. فالعالم من خلال غمه يعلمنا بدنو أمر ما سيجدده، ويتوق بلهفة انتظار إلى نور شمس أكثر إشراقًا لكي ينير ظلماته… انتظار الخليقة هذا هو برهان يقنعنا نحن أيضًا بانتظار إشراق المسيح، الشمس الجديد” (الحديث 61أ، 1- 3). لذا فالخليقة نفسها تقدونا إلى اكتشاف الآتي والتعرف إليه.
ولكن السؤال هو الآتي: هل ما زالت الإنسانية المعاصرة تنتظر مخلصًا؟ فالانطباع السائد هو أن كثيرين يعتبرون الله كغريب عن اهتماماتهم. وظاهريًا، يبدو أنهم بغنىً عنه؛ يعيشون وكأنه غير موجود، أو أسوأ من ذلك، كأنه “عائق” يجب إزالته لكي يتمكنوا من تحقيق ذواتهم. فحتى بين المؤمنين، هناك من ينجذب وراء أوهام مغرية ويتشتت في متاهات تعاليم مضللة تقدم طرق مختصرة وخادعة للوصول إلى السعادة.
ولكن بالرغم من كل تناقضاتها وكربها ومآسيها، وربما بفضل هذه بالذات، تبحث الإنسانية اليوم عن طريق تجدد وخلاص؛ تبحث عن مخلص وتنتظر – أحيانًا دون أن تعي ذلك – مجيء المخلص الذي يجدد العالم وحياتنا، مجيء المسيح، الذي هو وحده المخلص الحقيقي للإنسان، كل الإنسان. بالطبع، ما فتئ الأنبياء الدجالون يقدمون خلاصًا “رخيصًا” ينتهي دائمًا بخيبة مرة. فتاريخ الخمسين سنة الأخيرة يظهر بحث الإنسانية عن مخلص “رخيص” ويجلي للعيان الخيبة التي أدى إليها.
من واجب المسيحيين أن يظهروا من خلال شهادة حياتهم حقيقة الميلاد التي يحملها المسيح لجميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة. فبمولده في فقر المغارة، يأتي يسوع ليقدم لنا ذلك الفرح وذلك السلام اللذين وحدهما يمكنهما أن يرويا ظمأ انتظار النفس البشرية.
ولكن كيف نستعد لنفتح قلبنا للرب الآتي؟ يبقى الموقف الروحي المطبوع بالسهر اليقظ والمصلي ميزة المسيحي الأساسية في زمن المجيء. فهو الموقف الذي ميّز شخصيات الماضي: زكريا وأليصابات، الرعاة، المجوس، الشعب البسيط والمتواضع. وبالأخص انتظار مريم ويوسف! فهذان الأخيران، أكثر من أي شخص أخر، قد اختبرا الغم والرهبة بسبب الطفل المزمع أن يولد. لا يصعب علينا تخيل كيف قضيا الأيام الأخيرة في شوق انتظار أن يعانقا الطفل المولود حديثًا. فليكن موقفهم موقفنا نحن أيضًا أيها الإخوة والأخوات الأعزاء! فلنستمع في هذا الصدد إلى القديس مكسيموس أسقف تورينو الذي استشهدنا به آنفًا يقول: “بينما نحن على وشك استقبال ميلاد الرب، فلنلبس ثوبًا نقيًا، لا عيب فيه. أتحدث عن ثياب النفس لا الجسد. لا يكوننّ ملبسنا الحرير، بل الأعمال الصالحة! فالملابس الفاخرة تغطي أعضاء الجسد ولكنها لا تزين الضمير” (المرجع نفسه).
حذار أن يجدنا الطفل يسوع، وهو يولد بيننا، مشتتين ومنهمكين بتزين بيوتنا بالأضواء فقط. فلنحضر بالحري في نفوسنا وفي عائلاتنا منزلاً جديرًا يلمس فيه الرب إيماننا وحبنا. فليساعدنا العذراء مريم والقديس يوسف في عيش سر الميلاد بذهول متجدد وصفاء سلام. بهذه العواطف أتمنى أن أوجه أحر تماني بميلاد مقدس وفرح للحاضرين جميعًا ولعائلاتكم وأذكر بشكل خاص الذين يعانون الضيقات والمتألمين بالنفس والجسد. ميلاد مجيد لكم أجمعين!
ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)
حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية