stux - Pixabay - CC0

الحريّة هي مثل البذرة تنمو فينا وعلينا مراعاتها لئلا تتحوّل إلى طُحلب ٍ عفن

الحلقة الثانية

Share this Entry

رأينا في الحلقة الآولى من موضوع الحريّة، رؤوسَ أقلام ٍ بسيطة فقط. وسندخلُ في هذه الحلقة الثانية، والحلقات القادمة في لبّ الموضوع.

هل الحريّة حقيقةٌ أم خيال؟

الحريّة هي إحدى قضايا عصرنا الكبرى. إنهّا قضيّة تطرح أكثر التساؤلات خطورة، وتـــثير أشرسَ الجدالات، لأنها في ملتقى جميع الإشكاليّات. فما من مجال ٍ يتفادى تساؤلاتها، سواء كان في الفلسفة أو علم الإجتماع أو الإقتصاد أو السياسة أو علم النفس أو التربية أو الفنّ أو اللاهوت أو الروحانيّات..

كانت الحريّة محتواة ومكبوتة طوالَ آلاف السنين. وفـــجأة، انطلقت كإنطلاقة الرعد في ثلاث إنتفاضات: النهضة والإصلاح والثورة. وانفجرت في عالم ٍ مستقرّ، وفي مجتمع ٍ اعتادَ الخضوع وطأطأة الرأس. فكما أنّ ألمراهق يعي ذاته وطاقاته فجأةً، كذلك اكتشف الإنسانُ فجأة أنه حرّ مستقلّ. ففي قرننا الحادي والعشرين، غمرت هذه الحريّة العقول، ونسفت الحواجز، ودخلت جميعَ الأوساط الإجتماعيّة، فلم تعد وقفـــا على فئة خاصّة من الناس أو سنّ معيّن أو جنس من الجنسين، أو طبقة اجتماعيّة. ففي جميع أنحاء العالم، يستولي التعطّش إلى الحريّة على الشعوب المسحوقين والعمّال والنساء والأطفال والشعوب المحرّرة من الإستعمار. وعلى جميع الأصعدة وفي جميع المجالات، ينادي الإنسان بحقّه في أن يكونَ سيّد مصيره واختياراته.

في القرن التاسع عشر، وعى العالم الإجتماعيّ دوركايم Durkheim الإنطباعات الكثيرة التي يخضعُ لها الإنسانُ منذ طفولته. فوصلَ إلى الإستنتاج بأنّ الحريّة أسطورة ! . فالكائنُ البشريّ ليس إلاّ ألعوبـــة الوسط الذي يعيش فيه والتربية والمجتمع. ويمكننا شرح تصرّفاته واختياراته وتبريرها إنطلاقا من جميع هذه العوامل المترابطـــة. فالإنسانُ واقعٌ في حبال شبكة صيد، خاضعٌ لمجموعة ٍ  من العوامل الإجتماعيّة التاريخيّة التي تــــُخضِعُ أفعاله كلّها وتحدّدها. وبعد دوركايم، وصلَ فرويد Freud إلى استنتاجات مماثلة، لكنه لم يركّز على الحتميّات الإجتماعيّة التي تؤثّر في الإنسان من الخارج، بل على الميول الفطريّة والدوافع التي تضغط عليه من الداخل. فالشهوانيّة الــ ” Libido ” والعقل الباطن، وثقل الماضي ، والطفولة، هي بمثابة عتلة تحرّك نفسيّتنا وتحدّدها بدون علمنا.

آخر الأمر، أتى ليفي شتراوس وشرحَ لنا كيف ندخلُ ضمن إطار يؤقلمنا أقلمة ً كاملة من خلال بنية ٍ ورثناها من المجتمع، وتنتقلُ بوساطة اللغة. لستُ أنا الذي يفكّر، بل اللغة تفكّر فيّ. هوّذا التحدّي الذي تواجهنا به الأفكار البنيوية. فأنا إذن، آلةٌ،رجلٌ آليّ، أداة  بسيطة سلبيّة لبنية ٍ تحاولُ التعبيرَ عن نفسها من خلالي. ماذا إذن، هل الحريّة هي حقيقة أم خيال؟!

هل يمكننا تأليهُ الحريّة ورفع الشعارات ضدّ مَن يقتحمُ حريّتنا ويُكبت حياتنا؟!

يقولُ الأب هنري بولاد اليسوعيّ : ” هناكَ، بخصوص ِ هذه الأسئلة، ردّا فعل ٍ ممكنان تجاه العنف والفظائع والإعتداءات التي شهدها القرن العشرون : الأوّل يدينُ، بدون مواربة، إنطلاقا من الشعور بالعار :  ” مَن ارتكبوا هذه الأفعال وحوشٌ ومجرمون، ويجبُ معاقبتهم ليكونوا عبرة لمَن يعتبر” والثاني شفيق رحيم، يسعى إلى الشرح والتبرير: ” على كلّ حال ٍ، هؤلاء الناس ضحايا أوساطهم الإجتماعيّة أو تربيتهم أو غسيل الدماغ أو مذهبتهم الايديولوجيّة أو نقص الحبّ والحنان في طفولتهم، ألن نفعلُ ما هو أبشع لو عشنا في ظروفهم؟! “. هناك عنوانٌ فيلم ٍ لأندريه كايات يقولُ أسمه ” كـلّنا قتلة ” . إذن المحصّلة تقولُ بما معناه، أنّ الناس هؤلاء ليسوا مذنبينَ أكثر منكم ومنّي. لو نالوا ما نلناهُ من تربية ومبادئ، لما ارتكبوا هذه الجرائم البشعة.

لمْ نختر أمورًا كثيرة في حياتنا. يفتتح لويس إيفلي كتابه عن الحريّة بهذه الفكرة:

إنّ حريّتي تبرز وتـــُمارَس بين عدد لا يُحصى من التبعيّات. فأنا محدودٌ منذ البداية، مثلما تحدّد القاعدة الهرم. باستطاعة الهرم أن يرتفعَ إرتفاعًا أعلى أو باستقامة ٍ أشدّ، لكنّه لا يستطيعُ أبدًا أن يتخطّى المربّع الذي برزَ منه. وأنا أيضا، أصارع في حقل ٍ مغلق، لأنني في شبكة من الظروف والمؤثرّات التي تحدّد حريّتي، حتى وإن كانت تولّدها“.  إذن، نستنتجُ من كلام لويس، أنّ الحريّة ليست مطلقة بل محدودة. لأننا واقعون في شبكة ٍ كبيرة من الظروف والمؤثّرات التي تحدّدنا. هذا معنى هذا أننا لسنا أحرارًا ولا نستطيعُ أن نكونَ أحرارًا؟ كلّا، ليس الأمرُ هكذا. فالله خلقنا على صورته: عقل – حب – حريّة.  لكن، الله ذاته هو عقل وحب وحريّة، بعكس الإنسان فلا يستطيعُ أن يكون جوهره: محبّة، وعقل، وحريّة. بمعنى: حريّة الله هي مطلقة، ومحبّته شاملة ومطلقة، وعقله الناطق هو واحدٌ وغير متقلّب. فالحريّة والعقل والحبّ هم نعمٌ من الله وهبها للإنسان بكلّ مجانيّة. لكن هنا، لا بدّ من قول ِ شيء مهمّ: الحريّة ليستْ إمتيازًا، بل هي محنةٌ. هي تمرينٌ وتدريبٌ وإستمراريّة للوصولُ إلى تكوينها تدريجيّا. فلا يمكنني أن أقولُ، إنّي حرٌ والله أعطاني الحريّة وكفى، فهي متكاملة تامّة!. هذا التفكيرُ السلبيّ، هو الذي يُسبّب التصادمات الكثيرة وسوء فهم ٍ كبير في عالمنا. الحريّة هي مثل البذرة تنمو فينا وعلينا مراعاتها لئلا تتحوّل إلى طُحلب ٍ عفن!

يتبع

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير