الفاتيكان، الاثنين 13 سبتمبر 2010 (Zenit.org). – لقد أسهبنا في الحديث عن تشابيه الكنيسة، وما قدمناه ليس إلا نقطة في بحر التشابيه والاستعارات التي استخدمها آباء الكنيسة لكي يتحدثوا عن الكنيسة المقدسة. ولكن هناك بعد خاص ووجه خاص من وجوه الكنيسة يعبر أكثر من غيره عن واقعها وجوهرها الأعمق، ما وراء كل الخبرات البشرية، وهو ينطبق بأكمل شكل على المعيار الذي قدمناه في القسم السابق من هذه المقالة. الكنيسة تنبع من حب الأقانيم الإلهية الثلاثة، إنها كنيسة من الثالوث، إنها كنيسة الثالوث. التعبير اللاتيني التقليدي هو: “ Ecclesia de Trinitate “. بكلمات أخرى، الثالوث الأقدس هو الكنيسة الأولى الكنيسة الأصلية (Urkirche). الكنيسة الأولى هي الحياة الإلهية الحميمة، هي جماعة وشركة الحب الأولى والأبدية.
نقرأ في مطلع إنجيل يوحنا: “في البدء كان الكلمة” (يو 1، 1). هذا يعني أنه في صميم الحياة الإلهية هناك – إذا جاز التعبير – قول للذات، سرد للذات: اللوغوس الذي كان في البدء يعبر عن قول الله لذاته وعن هبته لذاته في لفظ الروح: قول الابن لا يتم كما يتم توليدنا لكلمتنا البشرية، من خلال لفظ يشغل فقط شفاهنا: قول الآب للابن هو فعل كياني جوهري يشغل كيان الآب بأسره. الآب بكليته هو أب الابن. الآب يتلفظ بالابن واهبًا كليته والابن يتقبل كلية الآب ويستسلم له، وذلك في نفحة روح الحب الأوحد، الروح القدس. في هذا التسلّم والتسليم نجد خيمة الحب الأولى، جماعة الحب الأولى (Ekklèsia باليونانية تشتق من فعل «ek-kalein» أي دعا خارجًا) (1). الكنيسة، إذًا، هي الفسحة الزمنية التي يتردد فيها صدى قول الله لذاته؛ في فسحات الكنيسة تضحي هبة الله حاضرة في الزمان. من خلال تجسد المسيح، نصب الابن خيمة حب الله بين البشر، أدخل كنيسة الثالوث في صلب تاريخ وحياة البشر (راجع يو 1، 14). الكنيسة هي الشهادة التاريخية لحب الآب للبشرية في الابن (راجع يو 3، 16).
يتحدث دستور “نور الأمم” من هذا المنطلق عن الكنيسة التي هي “علامة” (أي أنها تشير إلى الحقيقة) و “وسيلة” (أي أنها أداة تحقق ما تشير إليه!). إلام تشير الكنيسة وماذا تحقق؟ فلنسمع كلمات المجمع: “الكنيسة علامة ووسيلة الشركة الحميمة مع الله ووحدة الجنس البشري” (2).
تظهر الكنيسة كـ “أيقونة للثالوث” التي تواصل في التاريخ هبة الذات الأبدية التي تتم في الله بين الآب والابن في وحدة الروح القدس. يمكننا تقديم الدينامية بهذا الشكل: الآب يهب ذاته بالكلية إلى الابن في الروح، الابن يسلم ذاته إلى الرسل، الرسل يواصلون هذا التسليم في التاريخ عبر هبة الروح القدس التي يرمز إليها وضع الأيدي. هذا هو المعنى العميق للتقليد. التقليد المفرد والفريد يختلف عن التقاليد. فهذه الأخيرة هي عادات تتناقلها الأجيال وهي وليدة عوامل طبيعية، حضارية، وزمانية مختلفة، أما التقليد الفريد فهو واحد: هو تسليم ما قد تسلمناه، وهو أن الرب وهب ذاته لمصالحتنا ونحن بعض خطاة وعاصين، وأنه بعد موته لأجلنا قد قام وصار باكورة الراقدين، غالبًا الموت بالموت وواهبًا الحياة الحقة، حياة الاتحاد بالله، لكل البشر. بكلمات لاهوتي عظيم كرس دراسات مطولة لهذا الموضوع: “التقليد المسيحي (أو المسيحية كتقليد) ينبع من الهبة الكلية التي يقوم بها الآب نحو يسوع المسيح؛ والكنيسة هي بحد ذاتها، في جوهر كيانها، تسليم يسوع المسيح” (4)
___
(1) راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكية 751.
(2) نور الأمم، 1.
(3) . B. Forte, La chiesa icona della Trinità. Breve ecclesiologia, Brescia 1986
(4) Cf. Y. Congar, La Tradition et les traditions. Essai Théologique, Paris 1963, 113.