* * *
في عام 1920، عندما نال كارول فويتيلا سرّ المعموذية، استلمَ مثلَ كلّ مسيحي رسالة الكهنوتين الملوكي والنبوي ليسوع المسيح. ووجدت رسالته هذه ترجمةً فعليّة في حياته؛ فمارسَ رسالة الكهنوت الملوكي بصورةٍ خاصّة في سرِّ الدرجة، ككاهنٍ أولاً ثمّ كأسقف في قيادة الكنيسة، في كراكوفيا ثمّ في روما كراعٍ للكنيسة الجامعة. وعاشَ أيضًا رسالة الكهنوت النبوي بمعنى الكلمة، أي “بالتكلّم بكلمات الله” المستوحاة من الروح القدس. كلّ ذلك وجدَ له تعبيرًا في تعليمه، لا بل أيضًا من خلال أفعاله ذات القيمة الرمزية الكبيرة، كالافتتاح المسكوني للباب المقدس لبازيليك القديس بولس خارج الأسوار (18 يناير 2000)، أو طلب المغفرة على الخطايا التي ارتكبها المسيحيون على طول التأريخ (12 مارس 2000).
ومن بين هذه الأحداث المتميزة، يبرزُ خاصّةً اللقاءُ بين الأديان للصلاة والصوم الذي أقيمَ في أسيزي في 27 اكتوبر 1986. كان العالمُ وقتها مشتركًا في “حربٍ باردة” وتحت خطر صراعٍ نووي كان حدوثه وشيكًا وأكثر من مجرّد اعتقاد. وكان العالم بين حصارين: الشيوعي في بلدان شرق أوروبا من جهة، وذلك الذي أسسته بلدانُ الغرب.
أرادَ البابا دعوةَ ممثلي جميع الأديان لطلب نعمة السلام من الله. وكان هذا محورُ ذلك يوم التأريخي؛ ففكرُ الجميع كان متوجّهًا نحو الانقسام بين الشرق والغرب، وبين شمال الكوكب الأرضي الغني والجنوب الذي يتكبّد منذُ أجيال معاناةَ الفقر وسوء التغذية. لم يكن متوقعًا حتّى ذلك الوقت ما كان سيحصلُ بعد عام 1989، بعد سقوط جدار برلين، أي عودة استبداد وصراع الهويات القومية والدينية الذي قادَ إلى حرب البلقان والاعتداء الارهابي على نيويورك في 11 سبتمبر 2001.
أحداثٌ أدّت إلى فتح جراحاتٍ وعداوات قديمة قادت الكثير من الشعوب، المهمّشة عبر التاريخ حتّى ذلك الوقت، للمطالبة بغضبٍ بحقوقهم مدفوعين بتعصبٍ ديني مثير للقلق. فأنطلقَ صراعٌ يصعبُ تصوّر نهايته، لا بل يبدو التحدّي الأبرز في الوقت الحاضر وكذلك المستقبل. وفي الغرب هناك مَن يحثّ على استعادة الهوية؛ مَن باسم الحوار يخشى الاعتراف بتأريخه (مثل الأصول المسيحية لأوروبا) وهناك أيضًا مَن يتوقّع صراعًا للحضارة.
أمام هذه الأمور، كان يوحنّا بولس الثاني “نبيًا” (كما عرّفه الكردينال كارلو ماريا مارتيني)، من خلال رغبته في إطلاق “روح أسيزي”. فليس غريبًا أن يقرر البابا العودة إلى أسيزي في 10 يناير 1993، في وقت حرب البلقان التي شهدتْ صراع الهويات القوميّة المدفوعة أيضًا بأسبابٍ دينية.
قدّم البابا نفسه كمواطنٍ من مقاطعة أومبريا في 24 يناير 2002، بعد حادث الهجوم المأسوي على برجي التجارة العالمي في شهر سبتمبر السابق له. في تلك الفترة، شكك كثيرون في قيمة “روح أسيزي”، إلاّ أن اختيار يوحنّا بولس الثاني كان واضحًا ولا يقبلُ الشك. وإذا بدا موضوعُ السلام أساسيًا في البداية، إلا أنّ موضوع الحوار أصبحَ دومًا أكثر أهمية بعد ذلك لمنع أيّ صراعٍ للحضارة وتعلّم بناء عالمٍ يعلّمُ المواجهة والغنى المتبادل.
ذكرنا مسبقًا أن في 27 اكتوبر 1986، بدأ يوحنّا بولس الثاني ذلك اليوم التأريخي باحتفالاتٍ أوخارستية (1). نعلمُ جميعنا أن الأوخارستيا هي واحدة من اللحظات الأكثر أهمية في الهوية ليس تلك المسيحية فحسب، بل الكاثوليكية على وجه التحديد. كما كان الشهداءُ الأقدمون يجيبون مضطهديهم قائلين: “لا نستطيع العيش دون يوم الأحد”، أي دون جسد المسيح، أو على حدّ تعبير إصلاح الإصلاح التردينتيني الذي في العبادة الأوخارستية، الذي تشهدُ له بيوتُ القربان الباروكية، دافعَ عن الهويّة الكاثوليكية أمام الإصلاح البروتستانتي. نستطيع إذًا تعريف الاوخارستيا بـ”سرّ الهويّة”.
ولذلك، بدأ يوحنا بولس الثاني يومَ 27 أكتوبر 1986 باحتفالٍ أوخارستي لينتقلَ بعدها إلى أسيزي ليترأسَ اللقاء التأريخي بين الأديان. هذا العبور من “الهويّة الأوخارستية” إلى الحوار، يشكّلُ واحدًا من مميزات حبرية يوحنا بولس الثاني – الذي لم يخشى تطويب بيوس التاسع مسببًا جدالات كبيرة، أو تسميّة اليهود “الأخوة الكبار” – مما دفعَ أحدُهم إلى أن يعرّف حبريته بالمتناقضة.
غالبًا ما نقابل الهوية والحوار ونواجه المشاكل بربط هذين المصطلحين. إلا أن التجربة تكمنُ أيضًا في إلغاء أحدهما على حساب الآخر !
أشارَ يوحنّا بولس الثاني – كنبيٍ حقيقي – إلى الطريق الواجب اتّباعه محتفلاً بالاوخارستيا ومنطلقًا بعدها إلى مدينة القديس فرنسيس ليعيش التزام الصلاة والوحدة والسلام. وكما كتبَ مؤخرًا الكردينالُ انجلو سكولا، “مقولات مثل “التبادل”، “المصالحة” و”التكامل” – ذوو صبغةٍ غربية، ليست كافية” وهناك “لا مفرّ من “اختلاط الحضارات” لكي لا يتحوّل اللقاءُ في النهاية إلى صراع”. ولكي لا يحدث هذا، لابدّ ببساطة من اتّباع الطريق الذي رسمه يوحنّا بولس الثاني الذي عبرَ في 27 اكتوبر من الاوخارستيا (التعبير عن هويّة واضحة من غير عيب، كما يؤكدُ الاعلان “كلمة يسوع لعام 2000″) إلى الالتزام في بناء جسور التعاون والاحترام المتبادل. كانَ قداسة البابا، بعدَ أن تقوّى بجسد المسيح، قادرًا على تأسيس حوارٍ ناضج وبنّاء. وبهذه المواقف مُنِحَ له أن يفتحَ العالمَ على الرجاء والسلام والمصالحة، في ذلك الذي سيُذكره العالم دومًا بـ”روح أسيزي”.
وهذا هو النصّ الكامل لكلمات يوحنّا بولس الثاني في الاحتفال الاوخارستي للراهبات الحبيسات في معبد بيت القلب المقدس في بيروجا
الاثنين 27 اكتوبر 1986:
“أردتُ بدءَ هذا النهار بالاحتفال بالاوخارستيا المقدّسة من أجلكنّ ومعكنّ. أنتنّ اللواتي جئتن أيضًا من أسيزي، حيث سيلتقي سويةً اليوم ممثلون عن الكنائس والجماعات المسيحية ومن الأديان الكبرى في العالم، للصلاة من أجل السلام. قدّاسٌ من أجلكنّ ومعكنّ، وكما تقول القديسة تريزة الطفل يسوع – ليكن الحبّ لديكم مثل دعوة تعيشوها “في قلب الكنيسة”: هذا القلب الذي يشعّ منه نورُ الحقيقة وقوّة الشهادة لبناء السلام في الضمائر والمجتمعات وعلى كلّ الأرض. في هذا القدّاس أدعوكنّ للتضرّع إلى الله ليحملَ لقاءُ الصلاة في أسيزي ثمارًا وافرة من المصالحة والعدالة والسلام؛ ليكون نداءً لجميع البشر ذوي الإرادة الصالحة ليصلّوا من أجل خلاص البشرية؛ ليشهدَ للإخوّة من قِبل جميع أتباع الديانات على الأرض. أطلبُ منكنّ، أخواتي العزيزات، أن تشتركنَ اليوم وبصورةٍ خاصّة في هذا النيّات معي ومع الكنيسة جمعاء. اجعلنَ انفسكنّ مشتركات بصورةٍ خاصّة من خلال صلاتكنّ وتقدمة ذاتكنّ، من أجل نجاح هذا اللقاء في أسيزي. قدمن إلى الربّ تجديدكنّ اللائق لعيش تكريسكنّ بامانةٍ لله وبسخاءٍ في الصلاة والارتقاء في الحياة الرهبانية. شهادتكنّ ثمينة جدًا، فالخدمة التي دعيتن إليها من أجل خير الكنيسة والإنسانية جمعاء، تحملُ قيمةً لا تُضاهى. لأيدي العذراء القديسة، التي أصبحتن صورةً حيّة لها، ضعنَ ونضعُ جميعنا كلّ نيّاتنا على مذبح الربّ، بينما نستعدّ للاحتفال بالذبيحة الإلهية طالبين رحمة الله”. (2)
(من بيترو ميسا، يوحنا بولس الثاني وروح أسيزي. نبوّة السلام بين الهوية والحوار، طبعة بورتزينكولا، أسيزي).
(1) راجع ما قاله بالضبط بيترو ميسا، “روح أسيزي”: من الهوية الأوخارستية إلى الحوار بين الأديان. تلك الاوخارستيا التي احتفل بها يوحنّا بولس الثاني مع الراهبات الحبيسات تعطي انطلاقة لليوم التأريخي 27 اكتوبر 1986، في Forma sororum. مجلة راهبات القديسة كلارا في ايطاليا 42 (2005)، 210-216.
(2) يوحنّا بولس الثاني، موعظة في قداس للراهبات الحبيسات في معبد بيت القلب الأقدس (بيروجا، الاثنين 27 اكتوبر 1986).