* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
لقد ذكرت مرات كثيرة في هذه الفترة بضرورة أن يجد كل مسيحي وقتًا لله، وقتًا للصلاة، في وسط الاهتمامات اليومية العديدة. إن الرب بالذات يقدم لنا فرص عديدة لكي نتذكره. أود اليوم أن أتوقف بإيجاز على إحدى السبل التي تستطيع أن تقودنا نحو الله وأن تكون عونًا في اللقاء معه: إنها طريق التعبير الفني، التي هي جزء من “via pulchritudinis ” أي سبيل الجمال الذي تحدثت عنه مرات عديدة، والذي يجب على إنسان اليوم أن يعيد اكتشافه في معناه الأعمق.
ربما صادفكم أن تشعروا أمام منحوتة، أو أمام لوحة، أو أمام أبيات شعر، أو أمام مقطوعة موسيقية، أن تشعروا بمشاعر حميمية، بحس فرح، فتحدسوا أن أمامكم لم يكن هناك مجرد مادة، قطعة من رخام أو نحاس، قماش ملون، حفنة من الأحرف أو بعضًا من الأصوات، بل شيئًا يستطيع أن يرفع النفس.
إن العمل الفني هو ثمرة القدرة الخلاقة التي يملكها الكائن البشري، الذي يتساءل أمام الواقع المرئي، ويبحث عن معناه العميق، ويتوق إلى نقله من خلال لغة الأشكال، الألوان والأصوات. الفن قادر أن يعبّر عن عطش البحث عن المطلق. لا بل إنه كباب مفتوح على المطلق، على الجمال، وعلى الحقيقة التي تذهب أبعد من الواقع اليومي. إنه قطعة فنية قادرة أن تفتح عيون الفكر والقلب وأن تدفعنا نحو العلاء.
ولكن هناك تعابير فنية هي سبل حقيقية نحو الله، الجمال الأسمى، لا بل هي عون للنمو في العلاقة معه، في الصلاة. نحن بصدد أعمال فنية تولد في صلب الإيمان وتعبّر عنه. يمكننا أن نجد مثالاً عن ذلك في زيارتنا لكاتدرائية غوطية: نجد نفسنا مخطوفين في الخطوط العامودية التي تنتصب نحو السماء وتجذب نظرنا نحو العلاء، بينما نشعر في الوقت عينه أننا صغار وتواقين إلى الملء…
أو عندما ندخل إلى كنيسة رومانية: نجدنا مدعوين تلقائيًا إلى استجماع ذواتنا وإلى الصلاة. نشعر وكأن هذه المباني الرائعة تحفظ إيمان الأجيال.
أو عندما نستمع لمقطوعة من الموسيقى المقدسة التي تحرك أوتار قلبنا، وتتشرع نفسنا وتنال العون لكي تتوجه إلى الله. يتوارد إلى ذهني حفل موسيقي ليوهان سيباستيان باخ، في موناكو في بايرن، بقيادة ليونارد برنشتاين. في ختام المقطوعة الأخيرة شعرت، لا من خلال التفكير، بل بعمق قلبي، أن ما قد سمعته قد نقل إلي حقيقة، حقيقة الملحن الأعظم، وهذا الأمر دفعني إلى شكر الله.
كان إلى جانبي أسقف موناكو اللوثري وقلت له بعفوية: “لدى سماعنا هذا نفهم: أنه حقيقي؛ الإيمان القوي هو حقيقة، والجمال يعبّر بشكل لا يقاوم عن حضور حقيقة الله”. كم من المرات اللوحات والتصاوير، التي هي ثمرة إيمان الفنان، تدفعنا، في ألوانها وفي نورها إلى توجيه فكرنا نحو الله وتنمي فينا التوق إلى الوصول إلى نبع كل جمال.
يبقى حقيقيًا وآنيًا ما كتبه الفنان العظيم، مارك شاغال، عندما قال أن النحاتين قد غمسوا لعصور ريشتهم في الأبجدية الملونة التي يمثلها الكتاب المقدس.
كم من مرة إذًا تستطيع التعابير الفنية أن تكون فرصة لتذكرنا بالله، تساعدنا في صلاتنا وحتى في ارتداد القلب! بول كلوديل، الشاعر الشهير، المؤلف المسرحي والدبلوماسي الفرنسي، شعر بحضور الله في بازيليك سيدة باريس في عام 1886، لدى سماعه لنشيد “تعظم نفسي الرب” خلال قداس الميلاد. لم يكن قد دخل الكنيسة مدفوعًا من الإيمان، بل لكي يجد مواضيع يناقش فيها ضد المسيحيين، وإذا بنعمة الله قد عملت في قلبه.
أيها الأصدقاء الأعزاء، أدعوكم لاكتشاف أهمية درب الصلاة هذا لأجل علاقة حية بيننا وبين الله.
زيارة المواضع الفنية، إذًا، ليست فقط مناسبة للغنى الثقافي – هذا أيضًا بالطبع – فلتكن أيضًا فرصة لتضحي لحظات نعمة، حافزًا لتقوية رباطنا وحوارنا مع الرب، لكي نتوقف ونتأمل – في الانتقال من الواقع الخارجي البحت إلى الواقع العميق الذي تعبّر عنه – نتأمل في إشعاع الجمال الذي يخلبنا، والذي يجرحنا تقريبًا في الأعماق ويدعونا لكي نرتقي نحو الله.
أختم بصلاة من المزمور السابع والعشرين: “واحدة سألت الرب، وإياها ألتمس: أن أقيم ببيت الرب جميع أيام حياتي، لكي أعاين نعيم الرب وأتأمل في هيكله” (الآية 4). فلنرج الرب لكي يساعدنا في تأمل جماله، إن في الطبيعة أو في الأعمال الفنية، لكي يلمسنا نور وجهه، فنستطيع أن نكون نورًا لقريبنا. شكرًا.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية
حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية